صَنائِعُ المَعْرُوفِ تَقِيْ مَصِارِعُ الْسُوءِ

بسم الله الرحمن الرحيم
صَنائِعُ المَعْرُوفِ تَقِيْ مَصِارِعُ الْسُوءِ

الكاتب : منتصر بركات الزعبي
Montaser1956@hotmail.com
كمْ مِنْ بليةٍ غائبةٍ في رحمِ الغيبِ , أجهضها معروف بذلته , أو هم فرجته , أو حاجة قضيتها , أو محنة أزحتها , واسمع يا أخي ويا أختي إلى محمد بن الحنفية – رحمه الله – حين يجزم قائلا بأن ( صانعَ المعروفِ لا يقعُ وإذا وقعَ لا يَنْكَسِرُ )
بل ويقسم سيدُنا عليٌّ بن أبي طالب – رضي الله عنه - في كلمات تلمح فيها بريق الوحي , وتشم منها رائحة النبوة , فيقول : { والذي وسِعَ سمعُه الأصواتَ , ما مِن أحدٍ أودعَ قلبًا سرورًا , إلا خلقَ اللهُ تعالى من ذلك السرورِ لطفًا , فإذا نزلتْ به نائبةٌ , جرى إليها كالماء في انحداره , حتى يطردهَا كما تُطْرَدُ غريبةُ الإبل}
لقد أمر الله - سبحانه وتعالى - بفعل المعروف , وفعل الخيرات , والمبادرة لعمل الصالحات ، وجعل الحسناتِ مذهبةً للسيئات ، وبين نبيُّه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ عملَ المعروفِ من مكارم الأخلاق ومن أجل الصدقات وأعظم القربات إلى الله تعالى وهو الذي مدحه ربه جل في علاه لكمال خلقه فقال: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) [القلم:4]
لقد حثَّنا نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم - على صنع المعروف , ومن ذلك : ما رواه أهل السنن ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : أنَّ رجلاً جاء إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال : يا رسول الله ، أيُّ الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { أحبُّ الناسِ إلى اللهِ - عزَّ وجلَّ - أنفعُهم للناسِ، وأحبُّ الأعمالِ إلى الله سُرور تدخله على مُسلم ، أو تكشفُ عنه كُربةً، أو تقضيَ عنه دينًا، أو تطردَ عنه جوعًا ، ولإنْ أمشي مع أخ لي في حاجةٍ , أحبُّ إلِيَّ من أن أعتكفَ في هذا المسجد شهرًا - في مسجد المدينة - ومن كفَّ غضبَه ستر الله عَوْرته ، ومن كَظَم غضبه، ولو شاء أن يُمضيَه أمضاه، ملأ اللهُ قلبَه رخاءً يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتَّى تتهيأَ له ، ثبَّت الله قدمه يوم تزول الأقدام }.
لذا صح الخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه حثَّ أمَّتَه على صنع المعروف ، وعرّفهم سبله وكيفيَّته ، وعرَّفهم فضله ومزيته ، فقال بأبي هو وأمي : «صنائعُ المعروفِ تقي مصارعَ السوءِ , والصدقةُ تطفئُ غضبَ الربِ , وصلةُ الرحمِ تزيدُ في العمرِ , وكلُ معروفٍ صدقةٌ , وأهلُ المعروفِ في الدنيا هم أهلُ المعروفِ في الآخرةِ , وأهلُ المنكرِ في الدنيا , هم أهلُ المنكرِ في الآخرةِ , وأولُ مَنْ يدخلُ الجنةَ , أهلُ المعروفِ »
وأهل المعروف في الآخرة وحدهم من يكسوهم الله , ويطعمهم الله , ويسقيهم الله , ويغنيهم الله , قال سيدنا عبدا لله بن مسعود – رضي الله عنه - : { يُحشَر الناسُ يومَ القيامةِ أعرى ما كانوا قطُّ , و أظمأ ما كانوا قطُّ , وأنصب ما كانوا قط , فمن كسا لله كساه الله , ومن أطعمَ لله أطعمه اللهُ , ومن سقا لله سقاه الله , ومن عمل لله أغناه الله }
والمعروف أيها الأخوة والأخوات : هو كلُ إحسانٍ إلى عباد الله , من قرض حسن ,أو بر , أو هدية, أو صدقة , أو إعانة على قضاء حاجة , أو تحمل دين أو بعضه ، والستر على المسلم , والذب عن عرضه وإقالة عثرته , وإدخال السرور عليه , وإذهاب همِّه وغمِّه، وإعانة العاجز والأخرق، وإسعاف المنقطع ، وإعانة المحتاج ، أو غير ذلك من سُبل الإحسان .
وإليكم صورًا ومواقف َمن حياة المتصدقين في العصر الحاضر :
أثناء سجن الكاتب المصري المعروف مصطفى أمين سنة 1965 م , رئيس تحرير جريده " الأخبار " صدر قرارًا بمنعه من الأكل والشرب , لإجباره على تغيير مواقفه , وكلنا يعلم أن الأكل يمكن الاستغناء عنه لفترة , أما العطش , فهو عذاب لا يحتمل , وكان الجوُّ حارًا جدًا , وهو مريض بالسكر , ومرضى السكر يشربون الماء بكثرة.

في اليوم الأول , لم يجد ما يشربه , فشرب من ماء الاستنجاء الموجود في الحمام أعزكم الله , وفي اليوم التالي , وجد الإناء خاليا , لأنهم اكتشفوا انه يشرب منه , حتى انه اضطُرَّ أن يشرب من ماء البول – أكرمكم الله – لفرط عطشه , وفي اليوم الثالث , لم يجد ما يشربه حتى البول , بسبب الجفاف الذي كان يعاني منه , وبينما هو يدور كالمجنون في زنزانته من شدة العطش , و قد أصابه الإعياء وبدأ يترنح , فإذا بباب الزنزانة يُفتَح بهدوء , ثم رأى يدًا تمتد في ظلام الزنزانة , تحمل كوبَ ماءٍ كبير مثلج ؟ تصور في بادئ , أنه هذيان أو غيبوبة السكر , مدَّ يده ليتناول الكوب , فوجد ضالته , ماءً باردًا ! رفع رأسه فإذا بحامل الكوب يضع أصابعه على فمه , وكأنة يقول له لا تتكلم , اشرب الماء بسرعة . شرب الماء وهو غير مصدق لما حدث , ويقول : إنَّه ألذُّ كوب ماء شربه في حياته . ثم اختفى ذلك المجهول بسرعة , ولكنَّه عرف ملامح وجهه , وعندما خرج في الغد للتريُّض خارج الزنزانة , رأى الذي سقاه بالأمس وعرفه , فهُرِعَ إليه مهرولا ليسأله : أأنت الذي ... ولم يدعه يكمل ...نعم فقال له : لماذا فعلت ما فعلت ؟ لو كانوا ضبطوك لربما فصلوك من عملك , فقال الحارس : يفصلونني فقط ؟ إنهم سيقتلونني رميٍا بالرصاص , إذًا ما الذي جعلك تقوم بهذه المخاطرة ؟ قال : إنني أعرفك وأنت لا تعرفني , منذ 9 سنوات تقريبا , أرسل فلاح في الجيزة خطابا إليك يقول فيه : إنه فلاح في إحدى القرى النائية وكلُّ أمنينه , أن يشتريَ جاموسة ليعيلَ أسرته , ويعيشَ على خيرها , وانه مكث 7 سنوات يقتصد في قوته وقوتِ عياله , حتى جمع مبلغًا من المال , ثم باع مصاغ زوجته , واشترى بالمبلغ جاموسه , وبعد فترة وجيزة , ماتت الجاموسة, و حزن عليها حزنًا شديدًا , حكى لك ذلك الفلاح قصته , وتمنى عليك , أن تهديه جاموسه بدل التي ماتت , وبعد شهور قليلة , دُقَّ باب البيت الصغير الذي يملكه الفلاح , فإذا فتاةٌ تجرُّ وراءها جاموسة , تقول : أنا محررة من جريدة ( أخبار اليوم ) هذه الجاموسة مهداة من الأستاذ مصطفى أمين رئيس تحرير الجريدة . -- وكانت(جريدة أخبار اليوم ) قد اعتادت أن تحقق أحلام المئات من قرَّائها في ليلة القدر , في شهر رمضان المبارك من كل عام - ثم تابع حديثه قائلاً : هذا الفلاح الذي أرسلتم له الجاموسة منذ 9 سنوات هو أبي !!!
قصةٌ أخرى حدثت منذ أكثرَ من مئة عام تقريبًا ، فهي واقعية وليست محض خيال ، يقول صاحب القصة ويدعى ابن جدعان : خرجت في فصل الربيع ، وإذا بي أرى إبلي سماناً , يكاد أن يُفجِّر الربيعُ الحليبَ من ثديَّها ، كلَّما اقترب الحوار - ابن الناقة - من أمِّه دَرّت وانفجر الحليب منها من كثرة البركة والخير ، فنظرت إلى ناقةٍ من نياقي وابنِهَا خلفها , وتذكرت جارًا لي له بُنيَّات سبع بنيات ، فقير الحال ، فقلتُ : والله لأتصدقنَّ بهذه الناقة وولدِها لجاري ، والله - عز وجل - يقول : )لنْ تنَالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون( [آل عمران:92] وأحب مالي إليَّ هذه الناقة ، فيقول : أخذتها وابنَها , وطرقت الباب على جاري , وقلت خذها هدية مني لك ، فرأيت الفرح في وجهه , لا يدري ماذا يقول ، فكان يشرب من لبنها ويحتطب على ظهرها , وينتظر وليدها يكبر ليبيعه , وجاءه منها خير عظيم .
فلمَّا انتهى الربيع , وجاء الصيف بجفافه وقحطه , وتشققت الارض ، شددنا الرحال نبحث عن الماء في الدحول - والدحول : هي حفر في الأرض توصل إلى محابسَ مائيةٍ , لها فتحات فوق الأرض - يعرفها البدو يقول : فدخلت إلى باطن الدُّحل لأُحضرَ الماء حتى نشربَ , وأولادي الثلاثة خارج الدحل ينتظرون , فتهت تحت الأرض , ولم أستطع الخروج , وانتظر الأبناء يومًا , ويومين وثلاثة , حتى يئسوا وقالوا : لعل ثعبانًا لدغه ومات , لعله تاه تحت الأرض وهلك , وكانوا - والعياذ بالله - ينتظرون هلاكه طمعًا في تقسيم المال والحلال ، فذهبوا إلى البيت وقسَموا الميراث ، فقام أوسطهم وقال : أتذكرون ناقة أبي التي أعطاها لجاره ، إن جارنا هذا لا يستحقها ، فلنأخذْ بعيرًا أجربًا فنعطيَه الجار , ونسحب منه الناقة وابنها ، فذهبوا إلى جارهم ، وقرعوا عليه باب الدار وقالوا له : أعد الناقة خيرًا لك ، وخذْ هذا الجمل وإلا سنسحبها عنوة ولن نعطيك شيئا .
قال : أشتكيكم إلى أبيكم . قالوا : اشكِ إليه ، فإنه قد مات . قال : مات ! وكيف مات ؟ ولم لم أعلم بذلك؟ قالوا : دخل دِحلاً في الصحراء ولم يخرج . قال : ناشدتكم الله , اذهبوا بي إلى مكان هذا الدُّحل ، ثم خذوا الناقة وافعلوا ما شئتم , ولا أريد جملكم ، فلما ذهبوا به , ورأى المكان الذي دخل فيه صاحبه الوفي ، ذهب وأحضر حبلاً ، وأشعل شمعةً ، ثم ربطه خارج الدحل ، فنزل يزحف على قفاه حتى وصل إلى مكان يحبوا فيه وآخر يتدحرج ، ويشم رائحة الرطوبة تقترب ، وإذا به يسمع أنينًا ، وأخذ يزحف ناحية الأنين في الظلام ويتلمس الأرض ، حتى وقعت يده على الرجل ، فإذا هو حي يتنفس بعد أسبوع تحت الأرض ، فقام وجرَّه ، وربط عينيه حتى لا تنبهر بضوء الشمس ، ثم أخرجه معه خارج الدحل ، وأطعمه وسقاه ، وحمله على ظهره ، وجاء به إلى داره ، ودبت الحياة في الرجل من جديد ، وأولاده لا يعلمون ، قال لي الرجل : أخبرني بالله عليك , أسبوع كامل تحت الأرض و لم تمت ! فقلت : سأحدثك حديثاً عجباً ، لما دخلت الدُحل ، وتشعبت بي الطرق ، آويت إلى الماء الذي وصلت إليه ، وأخذت أشرب منه ، ولكنَّ الجوع لا يرحم ، فالماء لا يكفي .
يقول : وبعد ثلاثةِ أيامٍ ، وقد أخذ الجوع منِّي كلَّ مأخذ ، وبينما أنا مستلقٍ على قفاي ، وقد أسلمت وفوضت أمري إلى الله ، وإذا بي أحس بدفء اللبن يتدفق على فمي ، فاعتدلت في جلستي ، فإذا بإناء في الظلام لا أراه يقترب من فمي , فأشرب حتى أرتويّ ثم يذهب ، فأخذ يأتيني في كل يوم ثلاث مرات ، ولكنه منذ يومين انقطع ، لا أدري ما سبب انقطاعه ؟ فقال لي : لو تعلم سبب انقطاعه لتعجبت ! ظن أولادك أنك مت ، وجاءوا إليَّ وسحبوا الناقة التي كان الله يسقيك منها .
والمسلم في ظل صدقته ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب ) أرأيتم كيف تخرج الرحمةُ وقتَ الشدة !
ضاقت فلَّما استحْكَمَتْ حَلَقَاتُها فُرِجَتْ وكنتُ أظُنُّهـا لا تُفْرَجُ