ثقافة الهيمنة... وصناعة الوهم

على قاعدة " فرِّق تسد" التي كانت تنقصنا، ارتسمت أولى ملامح الصورة التي دفعت الشعوب ثمنها ارضاً ودماً وثروات، لتعيد الى الاذهان ذاكرة عمرها يفوق المئة عام، لمخطط سايكس بيكو عرّاب التقسيم والعدوان والنموذج الذي ما زال حاضراً في أجندات الغرب الى يومنا هذا يتدحرج من دولة الى أخرى بأرضيته الخصبة بالقمع والقتل والعنف، الذي تجرعته دول الشرق الأوسط بلا استثناء.

ففي السودان تمت إثارة اهل الجنوب حتى انفصل عن الشمال، وفي العراق وسوريا تعززت لدى الاكراد نزعة الانفصال، وفي المغرب العربي مسألة الصحراء وفي اندونيسيا تم فصل تيمور الشرقيه، وفي باكستان بنغلاديش وفي فلسطين تم فصل الضفه عن القطاع بمعابر واسوار، وتقسيم الضفه ذاتها الى مناطق نفوذ الف وباء وجيم، وهلمّ جرا...لتعيش الشعوب اليوم بإرثه أسوأ أوقاتها في مؤشرات العداله الاجتماعيه والحريات، هي والديمقراطيه خطّان متوازيان لا يلتقيان، تتعثر في الوقت الذي يتقدم فيه الآخرون، وأسيرة تقسيمات حفرت ندوباً في الذاكرة العربية عجز الأطباء عن تضميدها، فبدت وهي تبحث عن حلول لواقعها المتأزّم اليوم وكأنها تستنسخ تجارب دول سبقتها مضت في طريق التقسيم وحقل تجارب لعبت على وتر النعرات الطائفية والعصبيات، فكان مآلها التقسيم لا التوحيد، وكأن آخرما يحتاجه عالمنا العربي الذي يتخبط على ضفاف الحروب الأهلية اليوم مزيداً من التشرذم والتقسيم. فبينما يئن البدن العربي الذي تتكسر فيه النصال على النصال تنقسم الدول العربية أحزابا وجماعات عاجزه عن اصلاح هندام الثوب فوق الجسد المفعم بالجراح...! حتى ضاعت بوصلتها الى بر الأمان لتصبح ابعد ما تكون عن الاستقرار.

ولعل النموذج الذي يتبادر الى الاذهان بواقعه المأساوي الذي لا يبرح مكانه بنظامه الطائفي هو لبنان والعراق، بعد ان عصفت بهما الأزمات مراراً وتكراراً الى ما شاء الله... فلطالما شكلت الطائفية السياسيه وما تزال عائقاً امام التقدم والازدهار، حيث تهاوت في ظلها البلدان نحو منزلقات لم تكن يوماً بالحسبان، فما نلاحظه من شلل حكومي وفراغ سياسي وبالأخص رئاسي في لبنان كان سببه المرجعيه للطوائف والاحزاب وهذا ما افرزه الاستعمار الفرنسي، وأعقبه وكرّسه اتفاق الطائف الذي نظم أسس الحكم في لبنان وقسّمه طائفياً، ليصل الحد بالتدخل بالخدمات التي هي الاخرى لم تسلم من المساس، فباتت مرتبطه بالقوى الطائفيه عند الحصول على الصحه والتعليم والوظيفه، حتى مجلس النواب ما زال يعود بمرجعيته الى القوى الطائفيه التي تمسك بزمام الامور على مستوى السلطه والدستور، بمعنى انه لا دوله مركزيه ولا قوات امن في حقيقة الامر، انما هي مجرد شكليات ومسميات لا اكثر ولا اقل. اما العراق فقد حمل الهم ذاته بل اضعاف ما يمكن ان يحتمل وهو يدفع فاتوره الامن والارهاب الداعشي والميلشيات والسلاح المنفلت و الفساد الناجم عن سيطرة الطائفية على مفاصل البلد، حتى كاد يتجه الى التقسيم اقاليم ثلاث

"سنة وشيعه واكراد " وقس على ذلك سوريا ايضاً حيث تحتل الطائفيه العلويه فيه النصيب الاكبر في مقاليد الحكم بعد ان اتخذوا من حزب البعث دينا ومعتقدا.

فالغرب وهو يدرك جيداً من أين تؤكل الكتف على درايه تامّه بتركيبة المجتمعات وعلى اثرها لعب على وتر الاقليات، فلطالما كانت وسائله محكومه بالغايات، فقسّمها طائفياً ومناطقياً وتعاطف معها ووصل به الامر الى منح تلك المجتمعات الحق بالانفصال والحق في تشكيلها على اساس عرقي وطائفي وديني واثني، بل وسعى ايضاً الى إدراج ذلك في دساتيرها وتحت اشرافها بعد ان ملأت صدورهم بالغيظ وبالشعور بالمظلوميه ودفعها الى الحلم بالانفصال حتى ازداد خيار الفصل الطائفي شعبيه كوسيله لمقاومة التهميش من الدوله والإقصاء، في مسعى الى إلغاء دور الدوله وجعلها دويلات متصارعه غير قابله للحياه باختراقها امنياً وسياسياً ومن ثم اقتصادياً، متصيداً لثرواتها التي باتت مستباحه، بل وتحويلها الى شركات استهلاكيه تتسول الديون على ابواب صندوق النقد الدولي والخزينه الامريكية، فكان هو وجه الديكتاتورية المتسلل اليهم عبر آليات الديمقراطيه ذاتها.

ما لم يتم تقسيمه بالمدافع وفوهات البنادق بالامس تم تكريسه بوهم الديمقراطيه اليوم لتصبح اسيره لتقسيمات طائفيه وحروب ونزاعات اهليه ماضيه في طريق تفريق الجماعات وتمزيق كياناتها وتدميرالحضارات، فأمريكا واسرائيل ومن ورائها الغرب ومن يدور في فلكهم من الانظمه العربيه التابعة لم تترك بلداً ودخلته الا وسعت الى تدمير منظونته وثقافة شعوبه في التعايش المشترك، فكانت النتيجة التي اتحفتنا بها ان قامت بهدم الجسور بين فئات الشعب وشيّدت مكانها الجدران بسياستها الاستعماريه القائمه على صناعة وتصدير الوهم للاقليات، عبرتفعيلها للنسخه الديمقراطيه التي صنعتها لنفسها، لتليق بسياساتها بما يخدم مصالحها ومصالح حليفتها اسرائيل، وللتحكم في خيارات الشعوب واسلوب حياتها لتكون ملحقه بأهوائه واهدافه بما يضمن انحيازها الكامل لحكمه المستمر، لتصبح فيما بعد مستعمرات غربيه تعكس صورة الاحتلال بكل تفاصيله.

الجميع مستهدف يرزح تحت مسمى تبادل الادوار عبر مسار ونهج سارت في خطّه سياسات لطالما خضعت لمزاج الاستعمار لتدشين مرحلة جديده من الهيمنه والاضطهاد، متّخذه من الديمقراطيه عنوان، فذاك شكل من اشكال العولمه بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وكأن في تقسيم المقسم وتفتيته من جديد مصلحة للشعوب لا لنكبتها، وهذا ما فنّدته الوقائع اليوم على الارض وتاريخ الامم بالامس لتلك التي بنت آمالها على غد أفضل باستقلالها عن الدوله الام، حتى أضاعت الطريق لباب الدار...فلم تجد في استقلالها لا الرفاه الاقتصادي ولا حتى الاستقرار، بل على العكس ما زالت تتصرف كالقُصّرالتائهون في الارض بحاجه الى من يقودها ويمسك بيدها ويوجهها الى بر الامان، فبالرغم مما يقال او ما قد يبدو في الظاهر للعيان بدعم امريكا ومن خلفها الغرب علناً بإنفصال الاقليات اكثر ما يقلقها او تخشاه هو دخولها لعالم الديمقراطيه ونيلها للحرية والاستقرار، فبدا لها ان مثل هذا المنهج لم يكن يوماً من ضمن المقررات.

فامريكا التي تتباكى ظاهرياً على الاقليات هي نفسها التي لطالما تآمرت على الانقلاب بإنقلاب، فما ان تلبث تمسك بيدها في بداية الطريق حتى تهوي بها الى سابع ارض في منتصفه فتراها تتعامل معها إن إلتجأت اليها بقصر اليد، ونقص الامكانيات حيناً... وتبدي انفراجاً وانفتاحاً حيال مطالبها حيناً اخر ....! وهذا النموذج قد تم تعميمه على دول الشرق الاوسط بلا استثناء، واضعه لمساتها الاخيره عليه ما بين " احتلال ونفوذ وانتداب " وكأن لسان حالهم يقول ان هذه المنطقه لا يمكن ان يحكمها سوى الديكتاتوريات، وهذا ظهر جلياً عبر غضّها الطرف عن الحروب التي تدور رحاها منذ سنوات وبوضح النهار، بلا غالب ولا مغلوب حتى حرية الرأي باتت امام سمعها وبصرها من المحرمات، لتتجاوز الشعوب في آخر الزمان تكميم الأفواه الى كتم أنفاسها.

فالمفارقه وربما المعادله الاصعب ان مثل هذا الخطاب هو ذاته الذي يناصر ويدعم الثورات، و يصفق لها بالعلن، ففاجعة الديمقراطيه الغربيه انها اكتشفت ان نقيضها قد يخرج من صلبها، وان الديكتاتوريه قد تخفّت في ثيابها حتى استوت خلقاً كاملاً يستبد ويحكم الشعوب بمنطق القوة القائم على المصالح والأجندات، فلربما قد يطول الكلام عن الديمقراطيه في الغرب، التي هي جزء من هويتها وليست بترف، لينقص حين يأتي الامر الى دولنا العربيه، لنكتشف بقليل من التأمّل أننا في اولوياتها نقبع في اسفل الهرم، وان بصمات الغرب متواجده حيث لا تتواجد العدالة في اي مكان.

فمثل كل تحرك مطلبي في العالم سرعان ما تنشأ الطحالب على ضفافه تستغل الحراك بالمطالبه بالانفصال والاستقلال، فلربم يراها البعض صدفة جميله في الوقت الذي علت فيه حناجر الثورات العربيه بالديمقراطيه و العداله الاجتماعيه والمساواة، تظهر أصوات شاذه وقوى مضاده للثورات محاوله هدر وحدة الدول والمكتسبات التي باتت على مرمى بصر من التحرر والتخلص من الاستبداد، باغلاق النافذه التي تفتحها الثورات متبنيه مفهوم التخلي عن الحس الوطني المؤسس للدوله ووحدة الشعب، لنكتشف لاحقاً معطيات جديده حول الارتباط الروحي لتلك الاصوات بالقوى الاستعماريه و اقبية المخابرات لتأبيد تمزق الوطن العربي وتأجيل نهوضه على اسس عصريه.

في المقابل ضماناً ودعماً لقيام امبروطوريه اسرائيل الكبرى، فهذا الحدث يطرح علامات استفهام حول ما ينتظر المنطقه في الايام المقبله، فهل هو الاستسلام لأزمات عمرها سنوات سببتها صراعات بالوكاله وتقسيم واختراق وقرارسيادي مرتهن، اعاد عجلة التغيير الى الوراء مئة عام، ام الاستيقاظ ولو متاخراً على ضررالسياسه الغربيه التي عاثت خراباً ودماراً وقتلاً بنفخها في كير الحروب الاهليه، خصوصاً بعدما بات الضغط على الزناد ضد بعضنا البعض اسهل شيء في الحياه، والاستقرار امنية وحلما صعب المنال..؟!