دوائر متكاملة
اخبار البلد - فقدت "تويتر” يوم الاثنين 2 كانون الثاني الحالي ما يقارب خمسة مليارات دولار من قيمتها السوقية بعد قرار حذف حساب الرئيس الأميركي دونالد ترامب صاحب التسعين مليون متابع تحت ذريعة التحريض على العنف، رقم مالي سخي قدمته الشركة قربانا في معركة كسر عظم حقيقية تدور رحاها بين بقايا نظام الهيمنة الكلاسيكية ونهم الديكتاتورية الحديثة الصاعد، وفي السياق ذاته تحالفت أمازون وآبل وجوجل في قرار ثلاثي يقوم على قطع الخدمات عن تطبيق بارلر ذي الشعبية لدى جمهور المحافظين والمفضل لمؤيدي ترامب ليصبح التطبيق المعتمد على سيرفرات أمازون خارج التغطية، لقد سحقت ملايين الأصوات بكبسة زر.
من الواضح أننا أمام انقلاب عالمي حقيقي لا نشاهد منه سوى قمة جبل الجليد، فبعيدا عن صراع القوى السياسية ومدارس الاوليغارشيا المستعر، نحن أمام أهم قرار فلسفي حول التولتارية الصامتة والصاعدة بنهم وإعلانها لذاتها بهذه الطريقة المتوحشة، فمنذ ابتكار أشباه الموصلات ودخول السيلكون الى الالكترونيات، بات حكم العالم حتميا لمن يملك بلورات الزجاج تلك، فمن خلالها كما في كرات الساحرات في عالم الفنتازيا، يمكن رؤية المستقبل ولكن هذه المرة من خلال دوائر متكاملة يقبع أصحابها هناك في خليج سان فرانسيسكو حيث وادي السيلكون.
في وداع عام المتناقضات الكبرى عشرين عشرين، قدمت (نتفلكس) الشبكة المتخصصة بتقديم الأفلام والبرامج عبر الانترنت فيلما مثيرا للجدل تحت عنوان (المعضلة الاجتماعية)، لم يقدم الفيلم شيئا جديد وإنما أكد كثير من المزاعم حول العالم الافتراضي الذي ابتلع عالمنا الحقيقي، ولكن كانت العلامة الفارقة هم المتحدثون في هذا العمل الدرامي الوثائقي، فهم مديرون تنفيذيون ومبتكرون ضمن واحدة من هذه المؤسسات العملاقة مثل "غوغل” و”تويتر” و”فيسبوك” و”إنستغرام” و”بينتسرت” ليقدموا خلاصات حول تجربة عملهم في خفايا المؤسسات.
الفيلم يستحق المتابعة لإدراك أبعاد المعضلة التي علقنا بها ويطرح السؤال الكبير وهو: من هم الأشخاص المسؤولون عن وضع المعايير والأسس الأخلاقية التي تحكم هذا الفضاء، الذي بتنا برغبتنا أو بغيرها جزءا أساسيا منه وشركاء فيه بحسب الجملة الشهيرة (اذا كانت الخدمة التي حصلت عليها مجانية فاعلم أنك أنت السلعة)، وبصفتنا عبارة عن كتل معلومات كبرى تم تسليعها وتبويبها نجد في إجابات أهم قادة هذه المؤسسات التي امتلكتنا كمجتمعات وأفراد أن هناك مجموعة من الأشخاص لا نعلم ما مرجعيتهم القيمية يحكمون ما نرى وما نسمع وإن اعتقدنا أننا أحرار باختياراتنا ونقراتنا على الشاشة، فالحقيقة الخالصة وبشهادة من بنى هذه المؤسسات وصنع خوارزمياتها تقول إن هناك أقل من أربعين من مالكي الرقائق في وادي السيلكون يضغطون رؤية وقرارات ما يفوق الثلاثة مليارات شخص في دوائر متكاملة.
ببساطة، نحن نعيش تطبيقا عمليا للمعضلة الديكارتية التي تبحث في ولعنا حول ما يقول الناس بغيابنا والتي عرضها فيلم (ترومان شو) للرائع (جيمي كاري) الذي ينتهي باكتشافه أنه يعيش في استديو كبير منذ ولادته وأنه مجرد شخص في برنامج تلفزيوني هو بطله دون علمه، وهو ما يحاكي (وينستون سميث) ذلك الرقيب في وزارة (الحق) المنتظر لتوجيهات (الأخ الأكبر) والذي يمثله حاكمو هذا العالم الافتراضي كما هي رؤية أورويل في رائعته 1984.
كشفت الأحداث الأخيرة التي أكدت أنه حتى رئيس أقوى دولة بالعالم إن لم يخضع لشبكة وادي السيلكون فهو مجرد حساب يمكن حذفه من خريطة العالم بكل بساطة، أنها عملية اغتيال احترافية لا تقل عن تصفية كنيدي ولكن بلا دماء، مافيا تصفي خصومها في جريمة كاملة عبر دوائر متكاملة!