كلاسيكيات : دردشه عن الراحل احمد زكي و فيلم البيه البواب...الجزء 1

بقلم فراس الور
في حقيقة الأمر ارى كناقد فني ان كل الافلام و المسرحيات التي قدمها الفنان (مع حفظ الألقاب) الراحل احمد زكي و كل الأدوار سواء كانت ثانوية او بطولة اساسية ساهمت في دفعه بقوة نحو حياة فنية استثنائية و نجومية لم ينافسه عليها كشهرة و مجد فني الا الاساطير و نجوم كبار مثل على سبيل المثال لا الحصر عادل امام و نور الشريف و محمود عبدالعزيز و نجوم زمن الفن الجميل، و هذا بسبب تنوع فريد و مميز في الأدوار التي اخذها، فلو امعنا النظر في ارشيفه الفني سنرى ان احمد زكي ربما لم يكرر ادواره السينمائية لسببين، السبب الأول يكمن بأمتلاكه موهبة فنية كبيرة و دسمة أهلته لتقديم الدور الذي اراد بكل يُسْر و اقتدار مميز، فلو توقفنا عند بعض من افلامه سنرى فرادة هذه الأدوار و تمكنه من تاديتها بصورة مقنعة للمشاهدين، و اول فيلم قدم موهبة الراحل احمد بتميز هو الباطنية، الباطنية لم يكن اول عمل له و لكنه كان علامة فارقة بالنسبة الى مشواره الفني بسبب نوع الدور الذي قدمه، و قد صرحت الفنانة ناديه الجندي انها انتجت الفيلم بمجهود شخصي، و قد قدم به دور مزدوج حيث كان رجل المباحث الذي كان يتخفى وراء شخصية الأخرس سفروت لملاحقة تجار مخدرات في تلك المنطقة...انه دور كبير نرى هذا الفنان الذي كان غير مشهور جينها و لكن مفعم بالطموح و احلام لبلوغ الشهرة ينغمس بتقديمه بكل حرفية عالية، دور سفروت هو لشاب مسكين فقير و اخرس و هو من الأدوار الصعبة حيث لا يعتمد الفنان على الكلام بالمشاهد، بل بسبب عدم المقدرة على الكلام تصبح ايماءات الجسد و تعابير الوجه معا هما من يوصلان احاسيس و انفعالات و تفاعل الشخصية مع محيطها الدرامي للجمهور، و استطيع ضم صوتي مع العديد من نقاد السينما ان الراحل احمد زكي قدم هذا الدور بإمتياز، و انتشر نجمه بسبب هذا الدور كثيرا بالوطن العربي و ليس داخل مصر فحسب.

و حينها لم يكن ليتخيل اي من الفنانين الموجودين على الساحة الفنية ان هنالك بينهم عملاق كبير ينتظر بضعة افلام فقط لينشهر شهرة النجوم الكبار...بل وصل غرور الشهرة الذي كان يتمتع به بعض الفنانين وقت تصوير الباطنية للإستهزاء به مع كل اسف، استذكر هنا عدة تصريحات للفنانة ناديه الجندي في برنامج التاسعة مع وائل الأبرشي عن العمل مع هذا النجم اذ قالت ان محمد مختار زوجها كان ينزعج منه وقت التصوير اذ كان يعيد مشاهده كثيرا و نظرا لكلفة هذا الأمرعليه كمنتج، ففي كل اعادة للمشهد كان يحاول ان يبدع اكثر و يبدو مقنعا بادائه اكثر، و حينما كان يغضب مختار مما يحصل كان يقول احمد "بكره هتشوفوا حبقا ايه!"، و في رواية آخرى مؤسفة تم ذكرها عن لسان مصطفى محرم في مقالة في صحيفة الأخبار على الإنترنت نُشِرَ في 27 مارس 2019 تحت اسم " منتصر (1) صواريخ نادية الجندى على أحمد زكي: «إزاى أمثل مع واحد مبيستحماش؟»، قيل ان نادية الجندي كانت نجمة الجماهير حينما رشحوا لها الراحل احمد زكي لتأدية دور في فيلم الباطنية، و انكرت معرفتها به، و حتى حينما ذكروها بأنه لعب دور الطالب الفقير بمسرحية مدرسة المشاغبون قالت (منقول حرفيا عن مقال الصحيفة) ""فرفضت: «أبدت قرفها من هيئته ووصفته بأوصاف تثير الاشمئزاز منه» حتى إنها قالت إنه «مبيستحماش»، طبقًا لرواية مصطفى محرم."" و يكمل كاتب المقال بصحيفة الأخبار و يقول (ايضا منقول حرفيا عن الصحيفة) "«جاء أحمد زكى على أسنَّة رماحى، ساومه المنتج مساومة تصل إلى حد الإهانة فى تحديد أجره، لم يعطه أحمد زكى الفرصة وقبل بأجر مهين، كان يريد شراء الفرصة بأى ثمن حتى ولو اضطر إلى العمل مجانًا». تروي المقالة ايضا بأن تصوير المشاهد لم يكن سلسا و حدثت به مشاكل حيث كانت نادية الجندي تشكو بأن احمد كان يسرق منها الكاميرا بسبب ملكته الكبيرة على الدور و ثيابه التي كانت مقنعة لأداء الشخصية، و اتهمته بالتحرش بها مما جعل المنتج يتهجم عليه و يضربه، و روى محرم كيف ان المخرج غضب من الذي حدث في ذات مرة و غادر لوكيشن التصوير...و لكن حدث ما كان الراحل الكبير يتنبئ به بعد عرض فيلم الباطنية، و كما اسلفت نجح الدور و الفيلم نجاحا ساحقا، و كان هذا الفيلم اللبنة القوية الذي كان احمد يحتاجها لمشوار صعوده نحو نجومية شرفت مصر و كل من تعامل معه...و تكمل نادية الجندي ببرنامج التاسعة مع وائل الأبرشي انها اصبحت صديقة مقربة من النجم الراحل بعد بداية تعارفهما الجافة، و دعته لعرض فيلمها رغبة متوحشة الى السينما في عرض خاص للفيلم، و ذكرت انه مدح جدا بدورها بالفيلم و تنبئ بنجاح ساحق لها و بأنها ستستلم التكريمات على درها الذي يجب ان يدُرَسً،

الصعوبات قد تواجه اي انسان في سلم صعوده نحو النجومية في كار الفن و التمثيل، فالفن مهنة شائكة طريقها محاط بالشوك كما قال لي نجل فنان كبير كنت قد التقيته في مرة من المرات، فسبحان الله دور واحد قد يشهر من لا شهرة له بالعالم الفني و دور واحد قد يسبب لصاحبه نكسة كبيرة قد لا يخرج منها بسهولة، انه طريق يحتاج الى صاحب او صاحبة موهبة و نظرة ثاقبة للأمور و روح كفاح عالية و ارادة صلبة...و كلها صفات كانت متوفرة في الراحل احمد زكي...فإذا تخيلنا ان نجاحه عبارة عن خط بياني عامودي على جدول و الأفلام عبارة عن محطات افقية لن نرى هذا الخط يصعد ثم يهبط بمحطات غير ناجحة ثم يعلو مجددا...بل سنرى هذا الخط يتصاعد بصورة ثابتة متواصة الى آخر فيلم اداه قبل وفاته رحمه الله...و هو حليم...حظ قلما تمتع به نجوم كبار فالفيلم التجاري غير موجود بأرشيفه الفني و الدور الضعيف و الغير ناجح لم يغامر به رحمه الله...بل ارشيفه عبارة عن مجموعة ادوار مميزة وجد كل منها رواجا كبيرا لدى الجمهور العربي...و صدقا ليس بمقدوري التوقف عند معظمها لأن حينها ستتحول هذه المقالة الى اطروحة اكاديمية قد انال عنها دكتورة بالنقد و الفنون السينمائية...فليست فقط ادوار الأسطورة نادية الجندي تدرس بل ادوار ارشيفه ايضا...

سأتوقف هنا ايضا عند هذه المقالة التي اردتها دردشة عن بعض من اعماله عند عمل سينمائي رائع و راقي من فئة الفارس farce، و للذي لم ينتبه لفيلم البيه البواب هذا العمل هو ساخر و ناقد كما يجب ان تكون هذه الأعمال الكوميدية، و رسالة هذا الفيلم هي عن الأحوال المعيشية الصعبة التي تتسم بها نخبة من المواطنين و موظفين الدولة المكافحين و اصحاب المهن البسيطة، الحبكة من ابداع الكاتب يوسف جوهر و من اخراج حسن ابراهيم، و اول عرض لهذا الفيلم كان في 31 أب من عام 1987 في سينما ميامي، و به تمر الشخصية بمحطات و نقلات باحوالها المعيشية كبيرة و جذرية و خيالية قد لا تنطبق على واقع معاش بسهولة ، فينتقل عبد السيمع (احمد زكي) مع زوجته زينب (مهجة عبدالراحمن) من بلده في الريف المصري الى العاصمة بحثا وراء لقمة العيش، و في طريقه الى القاهرة يمر بمصاعب كبيرة فيقع ضحية نصاب محترف اسمه المستكاوي (سيد زيان)، فبعد ان فقد مبلغ من المال و بعد بكاءه المرير بقطار السفر يحاول المستكاوي مساعدته، و يقوم بجمع مبلغ من المال من المسافرين لأجله، و لكن عند بلوغهم القاهرة يهرب المستكاوي بالنقود ليتفاجئ عبدالسميع بأنه وقع ضحية مؤامرة، و رغم هذه الصدمة يمضي بحثا وراء عناوين لأشخاص من بلده عاملين بالقاهرة ليساعدوه ليجد عمل و مكان اقامة له و لأسرته،

ينجح عبدالسميع عن طريق احد الأشخاص بإيجاد عمل، و يصبح بواب لعمارة تسكنها عدد من الشخصيات المرتاحة ماديا، و في يوم من الايام و الحياة تقسو عليه تطلب منه احدا الشخصيات (ألفت السكر) التي تسكن العمارة ان تؤجر شقتها مفروش، و تطلب منه ان يبحث لها عن زبون ليسكن بها، فيقرر مساعدتها بالرغم من عدم خبرته بهذا المجال، و سرعان ما يضع القدر في دربه احد الأشخاص الذين يبحثون عن سكن ذو مواصفات فاخرة، و فجأة تفتح هذه التجربة عينيه على النقود حينما يقبض ثمن سمسرته، و يجري بين يديه القرش الذي يوقظ شهيته للعمل بهذا العمل، و يكون فرحات (فؤاد المهندس) و زوجته (رجاء الجداوي) و ولديه من سكان العمارة، و يكون قد تقاعد عن الخدمة الإدارية بالدولة للتو بعد رحلة عمل ناجحة طويلة لكن ليصطدم بواقع مرير، و هو ان دخله الذي سيقبضه بعد انتهاء عمله بالدولة لن يكفيه كمصروف له و لعائلته اطلاقا، و بالصدفة تسمع زوجته عن جارتها التي أجرت شقتها بأنها فعلت ذلك مقابل ثمن مجزي، فتسرع بإقناع زوجها بالطلب من عبدالسميع السعي لهم لتأجير شقتهم مفروش، و يقررا البحث عن شقة بديلة في حال وجدوا المستأجر، و ينجح عبدالسميع بتأجير شقتهم، و هنا تلعب الأقدار لعبتها مع البواب المسكين الذي كاد ان يموت جوعا بالأمس، فينغمس بالأعمال الحرة و يجني الأرباح الكبيرة، فتارة نراه يسعي ليؤجر الشقق المفروشة و تارة نراه بالمزادات العلنية بين التجار الكبيرة سعيا وراء قرشا يجنيه بالفهلوة و بالحنكة منهم، و تارة نراه يتاجر بالعقارات لنرى النقود تنهمر عليه بوفرة، بل يصبح قادرا على شراء العقارات الثمينة بعد فترة من عمله كسمسار...

و في ذات ليلة و هو في شقة الهام (صفية العمري) التي كانت قد تطلقت حديثا من زوجها عبدالرحمن (محمد رضا) الثري بعد ان علمت زوجته الأولى سنية (نعيمة الصغير) بزواجها منه يحدث ما لم يكن بالحسبان، فتسمع عبدالسميع بعد ان جلب لها بعضا من المواد التموينية بمكالمة تلفونية يفاوض احد المستثمرين على شراء عقار ثمين جدا...و تتفاجئ بأنه يملك ثروة لا يوحي بها مظهره الخارجي و وظيفته المتواضعة، فتتودد له و تغريه بمفاتنها ليقع بحبها، و يتزوج بها سرا ظنا منها ان قد تنجح بسلب جزءا من ثروته مثلما حاولت مع طليقها عبدالرحمن، و هنا تحدث مفارقات كثيرة بحياة عبدالسميع، في حقيقة الأمر رسالة هذا الفيلم الأولي تسلط الضوء على كفاح موظفين الدولة و الطبقات الكادحة في مصر و سعيهم لجني المال عبثا ضمن مداخيل عملهم، و الرسالة الثانية هي سخرية القدر من فرحات حينما يسكن بشقق فوق السطوح هو و زوجته بسبب عدم ايجاد شقة بديلة عن الذي اجرها لإلهام و طليقها عبدالرحمن، و بسبب سوء الأحوال المالية لفرحات صاحب الثقافة و الباع الطويل بالعمل بالدولة تقنعه زوجته بالعمل عند عبدالسميع البواب الذي لا يمتلك ربع ثقافته...و لكن الذي يمتلك الثروة...فنرى في مشهد معبر في الفيلم فرحات و عبدالسميع في مزاد يتفقان على خطة لجني المال من التجار المشاركين بالمزاد...و في حقيقة الأمر يسمى هذا الأسلوب الادبي باللغة الأنجليزية irony، و هو اسلوب ادبي ساخر يستخدم في التباين الحاد في تفاصيل الرواية او المشاهد الدرامية حينما وجب ان تكون الأحداث المنطقية بالعمل اوالرواية على امر و لكن يتضح انها تسير باتجاه مناهض للمنطق او مختلف كليا عما يجب ان تكون، و هذا الأسلوب كثيرا ما يتسخدم باعمال الفارس farce و الكوميديا عموما اذ يضفي اسلوب ضاحكا على العمل، فالعمل كله يتخلله النقد اللاذع او الsatire لواقع الحياة المعاشة و للدولة المصرية على سوء ادارته لأحوال المواطنين المادية، و مع تصاعد المشاهد و احتدام الصراعات بالعمل يأخذ هذا الفيلم شكل عمل الفارس...فالعجب العجاب ان يأتي بواب فقير الحال الى القاهرة و يصبح ثريا بين ليلة و ضحاها لأنه يمتلك الفهلوى و الحنكة...و يبقى المثقف و الموظف المحترم فقيرالحال لتدفعه ظروفه للعمل عند البواب...و صدقا يا لسخرية القدر...بل و يتنعم بسكن فاخر و عربية و مع اقتراب الفيلم لنهاته يبدأ العمل ببناء برج سكني كبير...يتبع