السياسات الاقتصادية والاجتماعية الحاجة لميلاد جديد!!
لم تشهد البشرية بتاريخها المُدوَن عملية إغلاق كالتي شهدتها في بعض أسابيع وأشهر العام 2020. ولا شك أن ما واجه الإنسانية والعالم جراء انتشار وباء فيروس كورونا يصل الى حد الكارثة. وكانت هذه الجائحة أكبر بالون اختبار لقدرات النظم الصحية العالمية وصلابة اقتصاداتها وقوة تماسكها الاجتماعي والإنساني. فقد وضع الفيروس الحكومات والمؤسسات بكافة قطاعاتها والأسر والأفراد على المستوى العالمي أمام أعتى تحد مشترك منذ أكثر من قرن من الزمان، الا وهو تحدي البقاء والمقاومة والنهوض من جديد.
كان على الحكومات إدارة جائحة ليس لها نظير، وبنفس الوقت المحافظة على صحة مواطني دولها وإدارة اقتصادها المغلق وتلبية احتياجات نقص التدفقات النقدية وتوفير السيولة للخزينة وللمؤسسات والشركات وحتى الأفراد الذين تعطلت بهم السبل. والمطلوب من الحكومات في المرحلة الحالية والمقبلة تقوية شبكات الأمان الاجتماعي وتوجيهها بدقة لمستحقيها، ووضع استراتيجيات جديدة لمواجهة الصدمات الشبيهة في المستقبل.
وبعد أن شهدنا موجات قوية خلال العقود الماضية لتقليص دور الحكومات في الاقتصاد، أظهرت الأشهر العشرة الماضية من العام 2020 قبولاً واسعاً لعودة تدخل الحكومات في الاقتصاد على المستويات الكلية والجزئية، بهدف حماية الأفراد والأسر والعمالة الرسمية وغير الرسمية والشركات الميكروية والصغيرة والمتوسطة وحتى الكبيرة.
كما أظهرت فترة الإغلاقات محاولات جدية، لم تكتمل، لإعادة تصحيح وهيكلة القطاعات والأعمال غير الرسمية عن طريق فرض شروط جديدة لعودتها للعمل. والحكمة كانت تقتضي أن يتم التعامل مع هذا الموضوع بمرونة وكفاءة متناهية، لأن العامل الذي سيمكن الشركات على مختلف احجامها من التعامل مع الشروط الجديدة هو قدرتها على تعديل نموذج أعمالها وانتقالها من حالة الفوضى التي كانت تعمل بها، الى حالة العمل المؤسسي المنظم الذي يحفظ حقوق أصحابها والعاملين فيها وحقوق الخزينة والدولة بنفس الوقت.
وبينما نحن على يقين أن العالم سيتغلب على الوباء والأزمة الاقتصادية الحادة، فإن هاتين النكبتين ستخلفان ندوبا عميقة تنطوي على تغييرات عميقة. وسوف تعجل الثورة الرقمية في التحول الشمولي الذي يعقب الجائحة، وكل ذلك يتطلب ميلادا جديدا للسياسات العامة. لذا نرى الحكومات تعمل جاهدة للتركيز أكثر على السلع العامة الأساسية والسياسة الصناعية، لأسباب ليس أقلها المخاوف الجيوسياسية. وبالرغم مما شهدناه على صعيد تأثير الجائحة على سوق العمل، أود أن أعيد التأكيد على احتمالية مفاقمة الثورة الرقمية من معضلة البطالة بتشريد مجموعات كبيرة من الناس من سوق العمل، لانه لا يمكن تحويل المجتمعات بأكملها إلى سيليكون فالي، على المدى القصير والمتوسط. لذا سيتطلب التعامل مع هذه الأزمة التي تلوح في الأفق، بسبب التكنولوجيا، سياسات اقتصادية أكثر عدلاً.
يجب أيضا إعادة تقييم الأنظمة الضريبية، بحيث يتم محاربة التهرب الضريبي والتجنب الضريبي بحزم، خاصة وأن الموازنات العامة تتعرض لضغوط شديدة تتراكم على شكل مديونيات مرهقة للاقتصاد وللناس. وهذا بدوره يؤدي على انحرافات حادة في توزيع الدخل. جزء من الحل يكمن فيما يعرف بالضرائب الرقمية على الشركات العملاقة التي لا تدفع شيئا تقريبا في البلدان التي تعمل فيها.
وأخيرا، يبقى الأثر الإنساني هو الأهم، فقد اكتشفنا طرقا جديدة لجعل حياتنا أفضل، واعدنا اكتشاف اهتماماتنا وهواياتنا وأذواقنا وحتى نمط تفكيرنا. وأصبح التقارب الأسري والاجتماعي أفضل من ذي قبل، وولد حسا أكبر لدى البشر بزيادة الحرص والحذر والوقاية من الأمراض المختلفة. باختصار، البشرية تستعد، بعد عبور أكبر اختبار، لدخول عصر جديد وحياة جديدة ستشمل تغيرات جوهرية على كافة الأصعدة؛ اننا نعيش ميلادا جديدا.