الأسماك و«بريكست»

 

اخبار البلد - قد يجري الإعلان عن اتفاقية «بريكست»، وقد لا يحدث ذلك. لكن من الأنسب في أكثر من اتجاه النظر إلى حقوق صيد الأسماك باعتبارها العقبة الأخيرة التي ينبغي إزالتها. إن هذا المجال السياسي الوحيد، والمعقد والمتحير الذي يلتف حول الحقوق والمظالم التاريخية، يتجلَّى في كل من هذه القضايا المثيرة للغضب بشأن الاتحاد الأوروبي في نظر العديد من البريطانيين، وكذلك بشأن الحقائق الداخلية للتكامل الاقتصادي.
إن ما يشكل مفاجأة لغالبية الناس هو صغر حجم المخاطر الاقتصادية. ففي حين أن أسماكاً بقيمة 1.5 مليار دولار تباع سنوياً، فإن مصائد الأسماك تمثل 0.12 في المائة فقط من اقتصاد المملكة المتحدة وتوظف 24 ألف عامل فقط، وهي نسبة ضئيلة أيضاً بالنسبة لاقتصاد الاتحاد الأوروبي. إن الفشل في تأمين صفقة تجارية بسبب الأسماك ربما يشير إلى أن أحد الأطراف كان راغباً في القضاء على العملية بالكامل.
ولا يعني ذلك التقليل من حجم المشكلة، فكثيراً ما تكون الصفقات التجارية مبنية على تفاصيل بسيطة. أما قضية الأسماك فهي فكرة عتيقة ورثها أنصار «بريكست» عن أسلافهم، وتعتبر قضية متفجرة سياسياً بالنسبة للدول الساحلية في الاتحاد الأوروبي، وخاصة فرنسا، حيث يتعيَّن على الرئيس إيمانويل ماكرون بذل الكثير من الجهد لكسب الرضا.
القضية ببساطة هي أن الاتحاد الأوروبي يريد الاستمرار في الوصول إلى مياه صيد الأسماك الغنية في بريطانيا. يمكنك أن ترى لماذا: فأكثر من نصف الأسماك والمحار التي يجري اصطيادها في مياه المملكة المتحدة يتم تمويل صيدها من قبل دول الاتحاد الأوروبي. ولذلك تريد بريطانيا استعادة السيطرة على منطقتها الاقتصادية الخالصة (التي تمتد بموجب القانون الدولي إلى 200 ميل بحري من الساحل) والتخلي عن سياسة الاتحاد الأوروبي المشتركة في التعامل مع مصائد الأسماك، التي تحدد حصة كل دولة فيما يخص كميات وأنواع الأسماك المسموحة لدول الاتحاد الأوروبي باصطيادها.
ورغم أن المملكة المتحدة قد تملك النفوذ هنا، فإن ميشيل بارنييه، مفاوض الاتحاد الأوروبي، ربط «الوصول إلى المياه» بـ«الوصول إلى الأسواق»، وهو ما يعني أن الاتحاد الأوروبي قادر على سحب المعاملة التفضيلية المفروضة على التعريفات الجمركية وتجارة السلع في أي وقت، إذا لم يكن راضياً عن تسوية قضية مصائد الأسماك.
هناك حسابات قديمة يتعين تصفيتها. فعلى الرغم أن صيادي الأسماك في أوروبا ظلوا يعملون في مياه المملكة المتحدة لقرون من الزمان (تدعي بلجيكا أن حقوق الصيادين في البحار البريطانية، كانت ممنوحة لصيادي الأسماك في بروج إلى الأبد من قِبَل الملك تشارلز الثاني في عام 1666)، فقد ضحت حكومة المحافظين البريطانية في عام 1973 بمصالح صناعة صيد الأسماك مقابل انضمامها إلى الاتحاد الاقتصادي الأوروبي، وهو الوضع الراهن الذي يسعى بارنييه إلى الحفاظ عليه.
 
إن نزاعات الأسماك عادة بغيضة تتجلى نتائجها في الفوضى وحتى العنف. فأثناء «حروب سمك القد» في القرن العشرين، اضطر حلف شمال الأطلنطي إلى التدخل لتهدئة النزاعات بين قوارب الصيد الآيسلندية ومرافقة البحرية الملكية التي تحمي سفن الصيد البريطانية، واشتبك صيادون فرنسيون وبريطانيون في عام 2018 بسبب «الاسكالوب» (المحار). وفي الأسبوع الماضي ذكرت لندن أنها كانت تقوم بإعداد البحرية الملكية لحماية المياه البريطانية بعد خروج بريطانيا، وهددت الصيادين الفرنسيين بحصارهم في المياه.
ورغم أن الاتحاد الأوروبي سوف يضطر إلى التخلي عن بعض الحقوق هنا، فإن حجة أنصار «بريكست» التي تزعم أن المملكة المتحدة لا بد أن تسيطر ببساطة على مياهها الإقليمية ـ تبدو خادعة في بساطتها. والفشل في التوصل إلى اتفاق بشأن الأسماك من شأنه أن يحكم على الصفقة التجارية الأوسع نطاقاً بالفشل، ولن يكون هذا مجرد نبأ سيئ بالنسبة للاقتصاد البريطاني، بل إنه سوف يدمر الصناعة نفسها التي يزعم بوريس جونسون أنه يحميها.
وهناك نحو 73 نوعاً من الأسماك المختلفة تخضع لحصص في مياه المملكة المتحدة، فبعض الأنواع تعتبر مفضلة بالنسبة للمستهلك البريطاني، فيما يفضل مستهلكون في دول أخرى أنواعاً أخرى. وحتى إذا تمكنت بريطانيا من إعادة كل الحصص في بحارها إلى أوطانها الأصلية، فإنها لا تملك السفن أو القدرة على الهبوط لصيد الأسماك أو معالجتها. فضلاً عن ذلك، فإن هذا من شأنه أن يلحق الهزيمة ببريطانيا نفسها لأن الصيادين البريطانيين يصدرون 70 في المائة من صيدها، مع وجود أكبر سوق لها في فرنسا.
كما يشعر أنصار «بريكست» بالـتعاسة لأن نصف حصة إنجلترا الحالية في الاتحاد الأوروبي - 160 مليون جنيه (177 مليون دولار أميركي) من الأسماك - تسير على متن سفن آيسلندية وإسبانية وهولندية تحمل أعلاماً بريطانية.
اسكوتلندا أيضاً تشكل أهمية أساسية، فهي تحتفظ بنسبة 60 في المائة من حصة المملكة المتحدة، وهي غالباً ما تصيد بسفن خاصة بها. وكان الوعد بإعادة السيطرة على مياه صيد الأسماك بمثابة تعهد رئيسي من جانب المحافظين الاسكوتلنديين. ومع ممارسة «الحزب الوطني الاسكوتلندي» المزيد من الضغوط من أجل الاستقلال، فإن جونسون عازم على ضمان عدم قدرة الاسكوتلنديين على الوصول إلى حل وسط لتعزيز قضيتهم.
ورغم أن الخلافات حقيقية، فإن النزاع على الأسماك يشكل أيضاً وسيلة مريحة في مجال وغير مريحة في مجالات أخرى من المفاوضات التجارية، حيث المخاطر أعلى بكثير. والواقع أن الجانبين في حاجة إلى بعضهما البعض، فهناك مجال واسع النطاق لجعل أي اتفاق بحري قابل لإعادة النظر في المستقبل، أو حتى وضع قواعد مختلفة لصيد أنواع مختلفة من الأسماك.
لكن في الساعات الأخيرة فقط من المفاوضات التجارية يمكن إدراك ما يهم الجانبين فعلياً. فإنْ لم يستطع جونسون إبرام صفقة تجارية الآن، فسيعني ذلك فشله في إدارة الدولة، كما قال ذات يوم في مناسبة أخرى.