الحقيقة والخيال في موضوع التعليم عن قرب وعن بُعد
اخبار البلد - في مقالات سابقة تحدثت عن مباغتة جائحة كورونا للعالم غير المُعد أو غير المستعد لمواجهتها. وعلى إثر هذه المفاجأة تباينت ردود فعل الدول عليها. وكان الرد الغالب هو تيار الكمامة والكفوف والتباعد المكاني، وإغلاق المدارس والجامعات وما في حكمها.
اعتقد الناس لوهلة أن الجائحة عابرة، وأن العطلة لن تدوم طويلاً، وأن المدرسة والجامعة عائدتان قريباً. ولما استفحلت الجائحة واستمرت واتسعت اضطر الناس إلى البحث عن تعليم بديل. وقد اكتشفوا في تكنولوجيا الاتصال الجديدة (الإنترنت) الحل المؤقت فيما سمي بالتعليم عن بعد، اي أطفال المدارس وطلبة الجامعات في بيوتهم.
ولكن التعليم عن بعد وفي البيوت وكما ذكرت في مقالات سابقة، قديم، بالصحيفة/ الجريدة، وبالكتاب، وبالمجلة، وبالإذاعة، وبالتلفزيون، وبالهاتف السلكي. وان كان لا يتم اتصال مباشر بها بين الكاتب، أو المؤلف، أو المذيع، أو القارئ، أو المستمع، أو المشاهد، أو المستقبل. إن كل ذلك يتم عن بعد، ثم اتسع هذا التعليم جامعياً بالانتساب، وبالإنترنت صار متاحاً لجميع الناس في كل مكان وفي كل زمان وفي كل شيء ولكن بالالتقاط والجمع.
ظن الناس أن هذا التعليم يمكن أن يحلّ محل التعليم القديم أو الوجاهي أو المباشر أو عن قرب. وقد تبين لهم فيما بعد أن بعض الظن خطأ، لأنه لا يصلح بعد (؟) للحلول محل التعليم عن قرب وأن الحاجة إليه نشأت بسبب الجائحة المانعة ليس للتعليم عن قرب، بل لكل أشكال الحياة عن قرب، أي عن التفاعل المباشر بين الناس.
كان يجب على التربويين التحدث عن التعليم عن قرب وعن بعد في ظل الأوضاع العادية للناس، أي بدون حائجة أو مانع للتفاعل المباشر بينهم، فهذا هو التعليم الذي قد ينشأ ويدوم، ولكنهم ظنوا أن الترتيبات الطارئة دائمة.
لقد حاول بيل غيتس مبكراً – نسبياً – تبني نمط تعليم إلكتروني في مدارسه التي زيّنها بأحدث مبتكرات تكنولوجيا الاتصال والتواصل، ولكنه لم يغلق المدرسة ولم يفكر في ذلك، ولم يفرض على الأطفال التعلّم في بيوتهم. ظلت المدرسة قائمة والصف محورها، وبحضور المعلم الذي يتابع ذلك ويديره ويناقش الأطفال فيه، أي أن التعليم صار هيجيناً (Hybrid) بدمج التعليم عن بعد بالتعليم عن قرب وليس العكس.
كنا بالانتساب نتعلم عن بعد: نقرأ الكتاب أو الجريدة أو نستمع للإذاعة أو نشاهد التلفاز، ولم يكن مطلوباً منا التسجيل مسبقاً له أو الاختيار منه، أما في التعليم عن بعد بالانتساب فنسجل ونختار التخصص وندرّس في البيت ونقدم الامتحان في الجامعة، ونحصل على شهادة جامعية به إذا نجحنا.
بالتعليم عن بُعد تكثر المنصات التي تتاجر به، فنسجل فيها لنحصل على كلمة السر ونتعلم بواسطتها ولكن لإغناء تعلمنا المدرسي أو تخصصنا الجامعي، ولكثرتها صارت كالمدارس الخاصة مفتوحة لكل من يريد أن يلتحق بها.
الجائحة سرّعت في الانتباه إلى المستقبل، فأخذ العالم يجرب، واعتقد أن المقدمة تدل على النتيجة وهي دمج التعليم عن بعد بالتعليم عن قرب، أي جعله كوسيلة تعلّم جديدة ولكن عظمى تضاف إلى الوسائل السابقة الباقية اللازمة. الدافع الأكبر للجوء إليها فيروس الكورونا الذي باعد بين الناس وهو استثناء لا قاعدة، ولا يقاس عليه بصورة دائمة. إنه تعليم وتعلّم في أثناء الحجر أو منع التجوّل ولن يستمر على هذا الحال بعد رفعهما."الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تغيرنا بشكل لا مفرّ منه وبصفة أساسية إلى الأسوأ.” باتريك دينين عن نيكولاس كار.
"إن الانترنت تغيرنا بالمعنى الحرفي لكلمة، حيث تحول أدمغتنا إلى أعضاء تختلف عن تلك التي كانت موجودة في عالم ما قبل الانترنت. حيث يؤدي استمرار الانهماك في الإنترنت إلى تغييرات فسيولوجية في (أدمغتنا) وبالتالي بالطرق التي نفكر، ونتعلّم، ونتصرف. إن التعرض المستمر للإنترنت يعيد كتابة وصلاتنا العصبية كما يجعلنا متعطشين بشدة إلى تغيرات متكررة في الصورة والمحتوى، وأقل قدرة من أسلافنا على الإحاطة والتركيز، ولكن هذا التغيير ليس إلى الأسوأ كله لأن تغييرات إيجابية ترافقه في المناطق الخاصة بصنع القرار وحل المشكلات ولكن المصحوبة بخسائر كبيرة في المناطق الخاصة باللغة والذاكرة والتركيز. إننا نصبح أكثر ضحالة وأكثر غباء” (عالم المعرفة ابريل/ 2020: لماذا فشلت الليبرالية: باتريك دينين 2018).