قمة العشرين... مسارات الطمأنينة ومساقات الأمل
اخبار البلد ـ يمكن القطع بأنَّ «قمة العشرين» التي أنهت أعمالها أمس الأحد، كانت من أنفع قمم «مجموعة العشرين» وأرفعها في العقد الأخير، رغم انعقادها افتراضياً بسبب جائحة «كوفيد19»، وحرمان أعضائها من اللقاءات الشخصية، ولكنَّ التكنولوجيا الحديثة وفرت دروباً بديلة فتحت الباب واسعاً للقاء.
أثبتت «مجموعة العشرين» وبقيادة المملكة العربية السعودية هذا العام، قوتها وقدرتها على تضميد جراح الإنسانية، تلك التي خلفتها جائحة «كورونا»، وأظهرت أهمية أن يجدف البشر في اتجاه واحد إن أرادوا لقارب النجاة أن يصل إلى بر الأمان، والمستقبل الذي ينعم فيه الجميع بالصحة والازدهار.
عند المحن والشدائد تظهر عزائم الرجال. والذين استمعوا إلى كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز يمكن لهم أن يتلمسوا طريقاً استشرافية غير تقليدية في مواجهة محنة غير اعتيادية ألمَّت بالمسكونة وساكنيها.
على حين غرة؛ اكتشفت الإنسانية أنها أمام مجهول مخيف، وقد كانت «مجموعة العشرين» على مستوى التحدي بالفعل، لا سيما حين توسعت في تنفيذ شبكات الحماية الاجتماعية لحماية الفئات المعرضة لفقدان وظائفهم ومصادر دخلهم.
الأمن والطمأنينة النفسية هما ما يحتاجهما العالم في هذه الأوقات الصعبة، لا سيما على صعيدين اثنين؛ الأول: فيما يخص طاقة النور للخلاص من هذا الكابوس الجاثم على صدر الإنسانية، وهو ما يتمثل في الوصول إلى لقاح فاعل ناجز يضع حداً لانتشار الفيروس الشائه.
الثاني: إتاحة فرصة للمديونين لالتقاط أنفاسهم، لا سيما بعد أن ضربت الجائحة دروب الاقتصاد العالمي.
أفضل ما فعلته «قمة العشرين» الأخيرة بقيادة المملكة هو أنها ابتعدت عن تصادم الآيديولوجيات في الزحام، وركزت على ما يعرف بـ«الميثودولوجيات»؛ أي الطرق الحديثة والعلمية في حل المشكلات، انطلاقاً من أن الحياة الإنسانية لا وسيلة لإقامتها على قوائمها إلا بالإنسان نفسه، الذي هو الهدف وهو الوسيلة.
كانت الظلال الروحية للمملكة حاضرة، والمعين الإيماني والوجداني مليئاً بفيوضات من النور والإرادة الحقيقية، وليس الحديث الأجوف، أو الشعارات الطنانة والرنانة من دون التجرّؤ على الفعل الذي يغير حال ومآل العالم.
لعل الطرح الأول والأهم الذي بشر به خادم الحرمين الشريفين تمحور حول التقدم المحرز في الطريق لإيجاد لقاحات وعلاجات وأدوات التشخيص لفيروس «كورونا».
على أن عقبة اللاعدالة في توزيع الثروات حول العالم كان يمكن لها أن تكون سداً وحداً في طريق وصول اللقاح إلى غير القادرين، لكن تصريحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، حول منصة «مجموعة العشرين» وعزمها على أن تقوم بتوزيع ملياري جرعة من لقاح «كوفيد19» على العالم، ربما طمأنت كثيراً من النفوس القلقة.
عطفاً على ما تقدم؛ جاء الرئيس الصيني شي جينبينغ، ليؤكد أن بلاده مستعدة لتعزيز التعاون العالمي لإنتاج لقاح مضاد للفيروس، وداعياً إلى تنسيق دولي أكبر في مجال السياسات التي تسهل انتقال اللقاح حول الكرة الأرضية.
لم يلحظ المرء جهداً أميركياً مثيراً أو لافتاً للانتباه في مداواة جروح العالم المعاصر، فقد جاءت كلمات الرئيس الأميركي دونالد ترمب القليلة، لتعبر عن أوضاع الداخل الأميركي، رغم الإعلانات المتتالية من قبل الشركات الأميركية عن نجاحات لقاحات بعينها في الداخل الأميركي.
ضمن منطلقات خطاب افتتاح القمة، يجد المرء المملكة تقود العالم في طريق تهيئة الظروف التي تتيح الوصول إلى اللقاح بشكل عادل وبتكلفة ميسورة، وتوفير اللقاحات للشعوب كافة من غير تمايز طبقي أو عرقي، وهذه لحظة تنويرية للإنسانية لو يعلم المرء، لا سيما بعد أن اتسعت الفجوة بين الشمال والجنوب؛ الأغنياء والفقراء، مع الأخذ في الحسبان أن فكرة القرية الكونية، جعلت من الصعوبة على أحد أن ينجو بنفسه ويترك الآخر في جب الهلاك.
البعد الاستشرافي المتميز الذي أفرزته القمة كذلك إنما يدور في إطار المستقبل وكيفية التأهب له بشكل أفضل، خصوصاً تجاه الأوبئة التي يمكن أن تطفو على السطح في مقبل الأيام، وهنا تكون الوقاية المتقدمة خيراً من العلاج المتأخر.
ولعل البعد الثاني الذي جعل من قمة الرياض قمة استثنائية لارتقاء الأمم ونهضة الشعوب ومحاولة الفكاك من براثن الأزمة، هو ذاك المتعلق بالديون التي تراكمت على كاهل كثير من الدول.
أدرك المجتمعون عبر الفضاء السيبراني أن الواجب الرئيسي في الوقت الحاضر هو الارتقاء بمستوى التحدي خلال هذه القمة، وطمأنة الشعوب وبعث الأمل فيهم من خلال إقرار السياسات الموجهة لمواجهة هذه الأزمة.
من هنا كانت قرارات القمة بمدّ أجل سداد الديون إلى الربيع المقبل، مع فتح الباب واسعاً لفترة سماح أخرى قد تصل إلى الصيف المقبل، مما يجعل البعض يلتقط الأنفاس.
على أن تأجيل سداد الديون لا يكفي بدوره لعلاج الآثار الاقتصادية التي يرى البعض أنها تتجاوز ما خلفته الأزمة المالية العالمية عام 2008، وربما تتجاوز كارثة «الكساد العالمي» في ثلاثينات القرن الماضي إن وقفت الخليقة ساكنة أمام الجائحة ومن غير لقاح شاف واف.
في هذا السياق، أكدت مقررات القمة أهمية تقديم الدعم للدول النامية بشكل منسق، للحفاظ على التقدم التنموي المحرز على مر العقود الماضية، ومن جانب آخر وضع اللبنات الأساسية للنمو بشكل قوي ومستدام وشامل.
يمكن اعتبار قمة العشرين هذه «قمة مناصرة المستضعفين والبؤساء وأقنان الأرض» كما كان يسميهم الأديب الروسي الكبير دوستويفيسكي؛ وفي المقدمة منهم المرأة والشباب، والعمل على إتاحة الفرص لهم في سوق العمل واسعة، وتهيئة التدريب والتعليم المستمرين.
«قمة العشرين» نجحت في تأكيد رؤية مفادها: «الإنسان هو القضية وهو الحل».