مسلمو فرنسا والقيم الجمهورية... إشكاليات الاندماج

اخبار البلد ـ فرنسا على أعتاب تغيير كبير، الأحداث الإرهابية الثلاثة في شهر أكتوبر (تشرين الأول) فقط، وما صاحبها من مواقف حادة للرئيس ماكرون ثم تراجع نسبي، وردود الفعل العربية والإسلامية، وخطته لمواجهة ما سماها «الانفصالية الإسلامية» واستعادة قيم الجمهورية، كلها تؤكد أن فرنسا تواجه تحدياً هائلاً، جزء منه مواجهة عمليات إرهابية، وهو الأيسر لأنه يتعلق بتعامل أمني مشروع وواضح المعالم، والجزء الثاني وهو الأكبر والأكثر تعقيداً يتمثل في إعادة هيكلة العلاقات والتفاعلات بين مكونات الشعب الفرنسي على أرضية الوحدة المجتمعية والتسامح وعدم ازدراء الأديان، والتي تمثل حسب تصريح وزير الخارجية لودريان جوهر القيم الفرنسية. الشقان معاً سوف يحددان كيف ستكون فرنسا في العقود الثلاثة أو الأربعة المقبلة، وبالتالي كيف سيكون وضع المسلمين فيها، وأيضاً وضع اليمين الفرنسي بمحمولاته الفكرية والحركية، وهو العدو الأكبر والأول للمسلمين في فرنسا، ولعموم المهاجرين.
أهم إشكاليات فرنسا اليوم تتعلق بفك العلاقة بين التطرف والإرهاب. الأول يتعلق بالفكر ومولداته وأسبابه، والآخر يتعلق بالسلوك العنيف المستند إلى فكر متطرف ومحفزات خارجية أو داخلية أو كليهما معاً. والأمر هنا لا يتوقف عند حدود ما يوصف فرنسياً بالتطرف «الإسلاموي» - وليس الإسلامي - المعبر عن آيديولوجيا فكرية وسياسية تستند إلى تفسيرات معينة للدين الإسلامي، يشوبها الكثير من القصور وسوء التأويل والابتعاد عن السمات الوسطية المميزة للإسلام، بل بكل أشكال التطرف الحزبي والسياسي والمجتمعي والإعلامي والدعائي، والذي ينطلق من أسس استعلائية وتمييزية بين الذات والآخر، وما يصاحبه من قناعات بأن الآخر هو مصدر للتهديد يجب استئصاله كما ينادي بذلك أنصار اليمين الفرنسي، وبعض مَن هم محسوبون على الاتجاهات الوسطية الفرنسية سياسياً بمن فيهم المنتسبون إلى حزب الرئيس ماكرون نفسه «الجمهورية إلى الأمام».
وبهذا المعنى فإن معالجة أمر المسلمين الفرنسيين لن تستقيم وحدها أيا كانت النيات الطيبة والإجراءات التي سيتم اتخاذها لتحسين أوضاعهم المجتمعية، وتغيير نمط التعليم في مدارسهم، وتحقيق المساواة بينهم وبين غيرهم من مكونات المجتمع الفرنسي، وذلك ما لم تُعالج الاتجاهات اليمينية بنفس القدر من الجدية والتي تمثل نقيضاً جذرياً لقيم الجمهورية الفرنسية نفسها، لا سيما قيم قبول الآخر والتسامح مع المختلفين دينياً وعرقياً وحضارياً. فالثابت أن اليمين الفرنسي شأنه شأن اليمين في بلدان أوروبية أخرى يستند إلى قناعات أحادية ولا يقبل التعددية المجتمعية والدينية، ويرفض الآخر المختلف دينياً وحضارياً ويُحمّله كل المساوئ، كأنه هو البريء تماماً من كل خَطْب. وهي اتجاهات ضارة حتى بالأفكار الليبرالية والتحررية، ولا مفر من مواجهتها بكل قوة. فتلك هي أبسط قواعد المساواة، فالمواجهة يجب أن تشمل كل ما هو نقيض التعددية بأشكالها المختلفة، ما دام أصحابها ملتزمين بالقانون والعُرف العام.
وبهذا المعنى أيضاً يتطلب الأمر وضع حرية التعبير في سياق منضبط سياسياً، انضباطاً يحافظ على حقوق ومعتقدات المسلمين في الداخل وفي الخارج، تماماً كما هو الحال لتقييد حرية التعبير قانونياً بالنسبة لقضايا تتعلق باليهود، حيث تبنى البرلمان الفرنسي في ديسمبر (كانون الأول) 2019 قانوناً يقر مساواة معاداة الصهيونية بمعاداة السامية، رغم كونها آيديولوجيا سياسية تنطلق من أسس دينية وتاريخية، بما يجعلها مثل «الإسلاموية» المراد مواجهتها، ورغم معارضة رجال دين يهود في فرنسا وخارجها لهذا القانون. وكان الرئيس ماكرون في حملة تسويق هذا القانون قد أكد أن معارضة إسرائيل هي شكل آخر من معاداة السامية، رغم الفارق الكبير بين الأمرين. والظاهر أن حرية التعبير التي يتم التمسك بها كأساس لنمط الحياة الفرنسي حين تكون جزئية وتمييزية، ومباحة في اتجاهات معينة ومقيدة في اتجاهات أخرى، ولا تراعي التنوع الحاصل في المجتمع دينياً وعرقياً واجتماعياً، ولا تحترم قناعات المختلفين وتتعمد إيذاءهم معنوياً ومادياً، فمن الطبيعي أن تثير التوتر والفوضى المجتمعية. وبالتالي فإن عدم ضبط المصطلح ومحدداته السلوكية بصورة عادلة، قد يطوِّر الأمور إلى مواجهات ذات طابع ديني، يراها محللون غربيون محتملة إن لم تؤخذ أسبابها بعين الاعتبار، وتم التعامل معها بحنكة سياسية عالية.
ترتبط بما سبق إعادة النظر في دور الدين في المجال العام، أو بمعنى أكثر دقة إعادة تعريف العلمانية بما يحفظ حقوق الجميع في المجتمع. إن تعدد مستويات العلمانية وتعريفاتها يظل مرهوناً بفكرة رئيسية وهي فصل الدين عن الدولة وشؤونها، وهو جوهر قانون «اللائكية» 1905 القاضي بفصل الدولة عن الكنيسة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل هناك في فرنسا أو في دول أوروبية أخرى واقع الفصل التام بين الدين وشؤون الدولة، وهل اختفى تماماً دور الدين في المجال العام؟ ما نراه في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية واقع مختلف تماماً. فالدين موجود، مسيحياً وإسلامياً ويهودياً، ما يعني أن العلمانية بمعناها التقليدي تواجه بالفعل إشكالية فلسفية وعملية وفكرية في آن واحد.
إن إبقاء شؤون الدين لمعتنقيه من دون تدخل من الدولة ليس سوى سراب، وفي فرنسا وغيرها من الدول تشريعات وقوانين وأعراف تدفع الدولة إلى تنظيم شؤون أتباع الأديان بما لا يضر المصالح الكلّية للمجتمع. ونرى ذلك في تدخل الدولة الفرنسية في عمل الأئمة، وفي مراقبة الجمعيات الدينية إسلامية وغيرها، وفي مراقبة معتنقي دين معين تحسباً للتطرف أو الإرهاب، والتدخل بسن قوانين تنظّم ما توصف بأنها رموز دينية كالحجاب بالنسبة للمسلمات وغطاء الرأس للهندوس وملابس السباحة للمسلمات. وفي مشروع الرئيس ماكرون هناك قيود وضوابط أخرى سوف يتم تقنينها في مجال التعليم للمسلمين وتدريب الأئمة وضوابط عمل الجمعيات الأهلية للمسلمين، مع مزيد من ضوابط المتابعة والرقابة لمن يُعتقد أنهم متطرفون ومؤهلون ليصبحوا إرهابيين. وكل هذه الأمور تعني باختصار أن الدين وشؤون أتباعه لا يمكن إلغاؤه من المجال العام، ولا يمكن فصله عن عمل السياسيين المدنيين. والأهم في كل ذلك أن الدولة عليها أن تتعاون مع ممثلي تلك الأديان، وهم أيضاً مطالبون بالتعاون مع مؤسسات الدولة لضبط أوضاعهم، وبما لا يقتطع من حقوقهم الدينية.
ضبط الوضع الديني للمسلمين في فرنسا وثيق الصلة بمدى النجاح الذي يمكن تحقيقه في إخراج الغالبية العظمى من مسلمي فرنسا من حالة التهميش الاجتماعي والاقتصادي التي يعيشون فيها. وهي مسؤولية الدولة الفرنسية بلا منازع، كمدخل أساسي لإعادة اندماجهم كفرنسيين مسلمين في بنية القيم الجمهورية، ورفع مستوى الولاء للدولة، والذي هو واجب على مسلمي فرنسا ما داموا ارتضوا العيش فيها، فضلاً عن أنه يتطلب منهم تفاعلاً إيجابياً مع عملية إعادة هيكلة أوضاعهم الكلية في المجتمع، والقيام بجهد مخلص لمحاصرة الأفكار الضالة والمتطرفة وكل مظاهر الولاء للخارج.