مستقبل الوطن العربي مرهون بصمود سوريا


بعد جمود عاشه الوطن العربي على الصعيد السياسي لعقود من الزمن، شاهد العالم بأسره الزلازل الشعبية التي اندفعت من باطن القهر والفقر المنصهرين في جوف المواطن العربي، والتي فجرت مقياس رختر بقوتها التي حطمت كراسي بعض الأنظمة العربية المتجذرة في عظام الوطن العربي قصرا وظلما، وطالت بعنفها وعنفوانها وامتداداتها ودلالاتها وول ستريت وروما ومدريد واليونان وبرلين وفرانكفورت، لتنتشر حركات الاحتجاج والمظاهرات في أكثر من عاصمة وفي العديد من دول العالم، مطالبة بتغيير عالمي ينتصر للمواطن أمام أنياب الرأسمالية الجشعة الفاسدة المستبدة.
لقد تابعنا تفاصيل شظايا جسد بو العزيزي تتراشق على قصر زين العابدين، وتهكمنا على رئيس يفهم شعبه بعد ثلاثة وعشرين عاما من على متن طائرته الهاربة من تونس إلى جدة، والمحملة بأطنان من الذهب وتاريخ من القمع، إلا أننا نشعر اليوم بشيء من الرضا وكثير من الراحة لنتائج انتخابات المجلس التأسيس التونسي، التي صبت في مصلحة حزب النهضة الإسلامي.
انطلقنا بعد ذلك إلى ميدان التحرير نهتف بحنجرة الغضب المليونية، ضد نظام باركته أمريكا منذ كامب ديفيد لتتخلى عنه في حمى المواجهة، مع الملايين الناقمة على الغاز المصري المهدور في فضاء تل أبيب، وأنصتنا إلى الخطاب تلو الخطاب حتى جاء القول الفصل وباركنا تنحي مبارك، وما زلنا حتى هذه اللحظة نترقب بشيء من الحذر وكثير من الخوف تحركات المجلس الأعلى للقوات المسلّحة المصرية والحراك السياسي المتّجه نحو انتخابات مجلس الشعب والشورى والانتخابات الرئاسية.
انفرجت أساريرنا ونحن نرشق ونفجر الأصنام واحدا تلو الآخر في البحرين واليمن، فالتزمنا الصمت وساورتنا الشكوك إزاء أحداث البحرين، واشتباهنا بأهداف إيرانية تحاول الخلايا الشيعية تحقيقها في المرمى البحريني، جعلنا نراقب أحداث البحرين بنوع من الحياد مع التباس في الموقف وضبابية في الرؤيا، أما فيما يتعلق باليمن فسيذكر التاريخ رئيسا عربيا خرج من بين أنقاض عملية اغتيال، بعد ثلاثة وثلاثين عاما من الحكم ليعود ببقاياه إلى سدة الحكم معلنا إلى شعبه الرافض واللافظ له، رفضه التنحي عن السلطة وحقن دماء الشعب والحفاظ على وحدة وأمن واستقرار البلاد، في سبيل إنهاء مدة حكمه المنتهية أساسا منذ عقود.
كما وسيذكر التاريخ رئيسا عربيا آخر انصهر في كرسي السلطة لأربعة عقود بحجة الديمقراطية، بل وضرب بوحدة بلاده ودماء شعبه وأرواح أبنائه عرض الحائط في سبيل هذا الالتحام الأزلي والأبدي في السلطة، المحتكرة في أيدي عائلة تحولت بمرور الزمن إلى كيان الدولة، وكأن أوطاننا العربية بما فيها من مقدرات وتاريخ وشعوب هادرة، أصبحت مختزلة في شخوص حكامها الذين نبتوا كالطحالب على ضفاف الحرب العالمية الثانية، والذين انتهكوا حرمات وحقوق شعوبهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، ومن ثم ألقوا بالأوطان عتبة تحت أقدام الطغاة من كبار المستثمرين الرأسماليين سواء من أبنائها العاقين، أو من قبل القوى الخارجية.
هدد كل من القذافي والصالح شعبه الثائر بالنزاعات الداخلية والاحتراب القبلي، وكأن قدر المواطن العربي محصور بين مطرقة الديكتاتورية وسندان الفتن الداخلية والحروب الأهلية، ورموز الحرية والعدالة والديمقراطية تبقى مفقودة من المعادلة العربية لاستحالة تحقيقها وفقا لمزاعم الرئيسين.
دخل حلف الناتو إلى ليبيا وخرج مصطفى عبد الجليل من عدسات المصورين برفقة هيلاري كلينتون، فتعملقت الأحداث العراقية المكوّمة على رفوف الذاكرة، وكلنا الاتهامات لكل من القذافي والمجلس الانتقالي الليبي، الأول على غطرسته وعزته الآثمة التي دفعته للهاث بين المخابئ والخنادق عوضا عن الامتثال لإرادة الشعب، والثاني لتحالفه مع الامبريالية العالمية وبعض الأنظمة العربية الموالية لتلك الامبريالية، في سبيل الوصول إلى سدة الحكم على دماء وأشلاء ومصالح وأموال ومستقبل ليبيا والليبيين.
قتل القذافي على أيدي الثوار جعلنا نخرج من قمقم الدهشة إلى فضاء التساؤل والخيبة والاستنكار، فهل حقا اللاحقون خيرا من السابقين؟ وهل يمكن لأيدي تلوثت بالغضب والظلم والانتقام أن تحقق الديمقراطية والحرية والعدالة؟
باغتتنا الصدمة من دوي الانفجار في سوريا، وأقضت مضاجعنا شرارة درعا الأولى، وتوقفنا طويلا عند الموقف التركي من الأزمة السورية، وصعّد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من لهجة خطابه للنظام السوري، وعمل كل من حزب العدالة والتنمية وبعض الشخصيات اللبنانية المعروفة وثلة الأنظمة العربية الموالية، على تأجيج نيران الفوضى في سوريا، ولم يكن حزب البعث ممثلا برموزه المعششة هي الأخرى في مفاصل الجمهورية من الذكاء والحكمة، بحيث يتمكن من التعامل مع الموقف وصخبه ومع الشعب وسخطه، بشكل يحتوي الأزمة ويستوعبها ويقلصها، مما جعل الأحداث في سوريا تتشابك بين الثائر والخائن وبين المواطن والعميل، وبين رصاص المسلحين المندسين وطلقات قوات الأمن، وبين مطالب الشعب المشروعة ومؤامرة خارجية تستهدف سوريا المقاومة والممانعة.
إلا أن الفرق الرئيسي بين النظام السوري وبين غيره من الأنظمة العربية الأخرى، أن الأول ليس مأجورا وموضوعا ومفروضا من قبل رؤسائه في الخارج على شعبه في الداخل، وبالتالي ثباته وديمومته لا تعتمد على مساندة البيت الأبيض له أو تخلي أسياده عنه كما حدث مع الأنظمة الأخرى، وهذا الفرق يقودنا إلى العلامة الفارقة التي تميز سياسة سوريا عن سياسة القطيع العربي، وهي سياسة تكوين أحلاف وبناء علاقات ومصالح خارج المشروع الأمريكي الصهيوني، وإفرازات هذه السياسة الحكيمة تجلت بوضوح على الخارطة السياسية الإقليمية ممثلة بدعم حزب الله وإيران من جهة، والخارطة السياسية الدولية ممثلة بموقف كل من روسيا والصين في هيئة الأمم المتحدة من النظام السوري من جهة أخرى، مما تضارب وأطماع إسطنبول في نفوذ إقليمي تقود بموجبه منطقة الشرق الأوسط، وقلص دور أمريكا المنفردة بهيمنتها على مسار القطار العربي ككل في المنطقة، وهذه هي السياسة بعينها بما تحتويه من مصالح تتقاطع وتلتقي وتتعارض، وهذا التوجه المنطقي والمشروع بل والمطلوب في تكوين أحلاف مختلفة ترتكز على علاقات سياسية وأمنية واقتصادية متفاوتة، هو الوتد المنيع الذي يرتكز عليه النظام السوري اليوم.
مستقبل الأزمة السورية سيحدد الفصل الذي تعيشه الأمة العربية، هل سيحرق زلزال سقوط النظام السوري المنطقة بأكملها، لندخل فصل الخريف العربي الذاوي حتى قبل أن نتمكن من استنشاق عبير ربيعه؟ أم أن التهديد المبطن المستفز الذي توجهت به لجنة المبادرة العربية ممثلة برئيسها إلى سوريا، سيفشل في الإيقاع بالنظام السوري لصالح استصدار قرارات جديدة من الجامعة العربية، وستعود مكوّنات المعارضة السورية إلى واشنطن بخفي حنين؟
ثورات الربيع العربي ألهمت شعوب العالم وأيقظت تنين الغاضب النائم، الذي أشعل أروقة القصور الماجنة الفاسدة الخائنة بلهيب سخطه العارم؛ لهذا لا يمكن لهذه الثورات أن تختطف وتبتلع في جوف أنظمة جديدة ركيكة وضعيفة وخانعة ومتآمرة من جديد، ولا يمكن لدماء الشهداء التي انسكبت على أرصفة الثورات، لتروي حدائق الحرية والكرامة، أن تجف في صقيع المؤامرة على جبين نجمة داوود المحفورة في دهاليز سياسة البيت الأبيض.