الموسيقى عاريةٌ.. لا أعرِفُها

أخبار البلد-

 

سأغادرُ هذي الغابةَ للنَّهرِ الأوّلِ،

حيثُ الفَرَسُ تخوضُ لِتَخْرجَ نحوَ التلِّ،

وتصهلُ بالفِضَّةِ ،

أو تنشرُ ما ظَلَّ من البَرْقِ على الأحياء.

غبارٌ هذي الغابةُ أو غَبَشٌ أسودُ ..

وأرى أنَّ سَبيكَتَها انكسرتْ ،

أخَذَتها السّاحرةُ إلى بئرِ مغارتِها السوداء.

سأغادرُ هذي المُتَصابِيةَ الرَّخْوةَ ..

مَنْ تَضَعُ قِناعاً تلوَ قِناعٍ

وتُراقِصُ أشْباحَ الرأسِ المقطوعِ

وتخفي سِحْنَتَها العجفاءَ ..

سأتْرُكُ سُوقَ نِفاقِ الأخوةِ؛

مَن كانوا في الخندقِ أو في البَيْرقِ أو خلفَ القُضبانِ ..

وراحوا للسوقِ ،

اندفعوا مثلَ الثيرانِ الوحشيّةِ

لمذاوِدِ ربِّ القُطْعانِ السائبةِ،

أُطْعمَهُم وَهْمَاً ،

وتّزَيّا فوقَ رِقابِ الخَلْقِ

وكانَ الآكِلَ والطاعِمَ والكاسيَ والسّادرَ في السِّيركِ الوطنيِ

المُغْلَقِ مِن كلِّ الأنحاءِ ..

كلابٌ تنهشُ في لحمِ غزالتِنا ، اجتمعتْ

لترى ما في القَصْعةِ من مَرَقٍ

خَثّرهُ الجَمْرُ،

لتملأَ جَوْفَ جنَّهمَ،

وتنامَ على رِيشِ نعامَتِنا الخرقاءِ.

وأَمْعَنَ سيّدُهُم بالسَّلْخِ وبالطَّبْخِ،

تَلَمَّظّ ، وامتلأَ البطْنُ، وأيْقَنَ أنَّ

القُطْعانَ الموسومةَ تأتيهِ

بلا تَعَبٍ،

فَلْيَذْبَحْ ما شاءَ من الصُّوفِ ،

عدا الكبشِ المكحولِ..

فهذا مَن باعَ حظيرَتَه للذّئبِ،

وصالَحَ غِربانَ البيداء.

سأترُكُ هذا الطَقسَ الوثنيَّ وأزلامَ المَعْبدِ وعُكاظَ الخُطَبِ المكرورةِ

وقوافلَ داحِسَ والغبراء.

لقد كذبوا! مِن أوَّلِهِم

حتى آخرَ مَن تاجرَ بالنّارِ وبالأوجاعِ وبالنسْوَةِ حينَ رَقَصْنَ

بمنديلِ الأعراسِ المُذْهلةِ..

وكَذَّبَ ثانيةً..

فَالكافِرُ مَن رَفَعَ البُهتانَ

وصدَّقَ ما قالَ مُسيلمةُ الكذّابُ،

وعادَ مع الصَّنَمِ المهدومِ..

لأرضِ الرّومِ..

سأتْرُكُ مملكةَ الخَوفِ

أو الزّيفِ

وأَهْجرُ هذي المنهوكةَ والمذبوحةَ

بسيوفِ أشقائي الأعداء.

وأتْرُكُ هذي الكُثبانَ القاحِلةَ

المَذْرورَةَ،

مَن يختَبئُ بها الثعبانُ أو العقربُ والغولُ أو المَمْسوخُ..

سأترُكُ هذا التصفيقَ الفجَّ، وصوتَ العتمةِ

والجدرانَ المثقوبةَ،

لفضاءِ السِّجنِ

ومقصلةِ الطّاغوتِ

وقُبَّةِ صخرتِنا الشقراء.

سأترُكُ هذي الهاويةَ الفاغرةَ الأنيابِ ، الشائخةَ الرّيحِ ، العاجزةَ ببيتِ الضّبْعِ ، وتبدو الضائعةَ الدَرْداء .

سأترُكُ أنفاسَ المَوْتِ ورَملَ الوَقْتِ ولمْعةَ نيِشانِ الجنرالِ المهزومِ ،

سأترُكُ هذه الُلعبةَ ؛

مَنْ أرْبَكَتِ الأطفالَ

وبدَّلَتِ الأحوالَ

وقالتْ ما قالَ القاتلُ..

وأغادرُ هذا السِّحرَ الأسودَ والترقيصَ على الأحْبالِ ، وعِطرَ الغانيةِ المأجورةِ ، ورقابةَ أجهزةِ التسجيلِ، وخنجرَ أصحابِ التأويلِ ،

وخيطَ عناكِبنا المسمومةِ ..

سأغادِرُها .. لدَمٍ يتفجّرُ

في أوردةِ الحقلِ المنسيِّ

وفي الزَّهرِ الشتويِّ ،

وأُترُكُ هذي المعركةَ الخاسرةَ

إلى قلبِ فلسطينَ؛

لأوَّلِ ما خلقَ اللهُ وآخرُ ما يبقى في الأرضِ

من الحِنّاء.

سأترُكُ هذا المرْقصَ

فالإيقاعُ غريبٌ

والليلُ بهيمٌ

والموسيقى عاريةٌ

لا أعرفها،

لا تعرفني،

غرباءٌ نحنُ بهذا المحْفلِ..

ما عاد لنا ما نطرحُه

بِمَزادِ السيّدةِ العمياء.

سأترُكُ هذا الكأسَ،

فيكفي ما فعلتْهُ الخمرُ الفوّاحةُ

في الرّوحِ،

ولا ينقُصها الدَّنَّ النازفَ

مِن أعصابِ الكَرْمَةِ،

إذْ سَرقَوا العنقودَ كما سرقَوا الكأسَ وأضواءَ المشْرَبِ والثلجَ السائحَ في طَيَّاتِ الأضواءِ الحمراء.

انطلقوا مثلَ جَرادٍ

جاءَ على الحقلِ،

وغادرَ بعدَ الجَدْبِ لأطْلالِ البُومِ

وجُحْرِ الحَيَّاتِ الرّقطاء..

سأترُكُ هذا التسْطيحَ الساذجَ والنوْءَ الهائجَ والقُبْحَ الرائجَ والتّيهَ الفالجَ والصدأَ الخارجَ مِن فُولاذِ الحَجَرِ إلى الأجراسِ،

ونأتي دونَ حَمامٍ يَزْجلُ

برسائلَ مَن ظلّوا فوقَ التَلِّ

على أُحُدٍ،

وتساوى مَن ماتَ

بِمَن جَمعَ غنائمَ معركةِ الثأرِ..

سواءً بسواء !

سأترُكُ هذا البحرَ المسجورَ،

أنا لستُ بموسى

كي أَملكَ منْسَأةً أضربُها في الموجِ

فيَنْشقُّ الماءُ ،

ولستُ بِيوشَعَ كي أقبضَ بالكَفِّ

على الشمسِ ،

ولستُ بِمَن يجترحَ المُعْجزةَ

إذا جاءَ السّاحرُ ،

أو أبعثَ مَن راحَ إلى الغَيْبِ..

أنا الكَهْلُ المصلوبُ وموسى المطرودُ ويوسفُ إذ أَلْقُوهُ إلى الجُبِّ..

فَيَا ربِّي ارحَمْني من إخوتيَ المفضوحينَ

بهذا الليلِ المُشْرعِ للأنواء.

سأترُكُ هذا المأتمَ دونَ رثاءٍ للرّاحلِ،

فالثورةُ في قلبِ التابوتِ!

وهل غادَرْتُ لأحملَ باقةَ دمعٍ للأيتامِ ؟

هنالكَ سادَ الصمتُ

وغابت ألسنةُ الشُّعراء!