ذاكرة وطن وأمة

اخبار البلد-

 

ان الزرع أخضرَ، وكان الزهر بالوان قوس قزح حين كنت طفلا يستاف الأمل في قريتي الأجمل التي يحيط بها أودية وشلالات وسهول.
وعلى مقربة منها جبل الشيخ يعج بنسماته الباردة في الصيف اللاهب، وكان الحصاد يأتي بالخير وبما يجعل أهل قريتنا وكل قرى الفلاحين مكتفين فرحين، كنا نحتفي بمواسم الزرع والحصاد وعلى مدار السنة حين كنا نزرع وحين يأتي القمح وكل شقيقاته بالنمو ما يجعل الارض سجادة تمتد من حدود العين الى اخر الافق، وكان المزارع يعج بالفرح والسعادة منتظرا ان تعطي الشمس كل ما لديها حتى يثمر الزرع ليأتي موسم الحصاد، وكان ابي وكل اقرانه وأمي وكل صديقاتها يجلسون بالقرب من هذه السجادة يتسامرون ويتحدثون عن ماض قريب بما جنوا وما حصدوا واحاديث الزمن الجميل الذي قضوه في بيادر الحصاد وحقول الزرع الذي ما غاب عن ذاكرتهم في مراحل حياتهم.
وللوطن من احاديثنا متسعٌ حيث قضى الاباء حياتهم في الدفاع عن الارض والانسان ورووا القصص التي حاكوها وعاشوا لحظاتها لنا وكنا اطفال يانعين نُعنى بالقراءة والكتابة في المدارس العتيقة التي جاء الخطيب من اقاص البلاد ليعلمنا ونتخرج على يديه، وايدي المعلمين الذين كانوا اساتذة ومربين يتدخلوا في أدق التفاصيل في حياتنا، كانوا اباء واخوة ومعلمين وكان لهم دور كبير في تثقيف اهل القرية حين غاب عن بعض اهل القرية التعليم، وساهموا في الارتقاء بالوطن، وحين كان بعض رجال القرية يذهبون بعيدا في الاردن وفلسطين كانوا يأتون بقصص الاهل هناك وكانوا يلقونها لابنائهم واحفادهم، وتعمر في قلوب الجيل الثاني عشق تلك الديار ليساهموا في اعمارها والدفاع عنها لاحقا في فلسطين وكل مكان في ارجاء الوطن، كانت الغربة وطنا حين لم يكن الوطن غربة ففي كل الارجاء كان الناس يتحدثون بذات الهمة وكانت الدولة تعمل بكل ما لديها حتى يتحرر الانسان من الجهل والاحتلال والمرض.
وكنا ننشد لكل بلد يرجو التحرير من الاستعمار حتى نحقق حلما راودنا في الوحدة لكل اقطار الوطن العربي، وكنا نغني للجزائر في الطابور الصباحي حين كان المستعمر الفرنسي يقتل اشقاء الدم والتاريخ، وكذا ما حدث ويحدث للاشقاء في فلسطين من متشردي الحرب العالمية من الصهاينة الذين أُعطوا ارضا ليست لهم فيها حق، وأزاحوا اهلها منها ليصبح الشعب الفلسطيني اكثر شعب تم تشريده في التاريخ.
وفي الاثناء يتقدم الاردن وطنا وقيادة وتزداد الجامعات الحكومية من جامعة واحدة هي الجامعة الاردنية والتي تأسست مطلع الستينات، وبعدها جامعة اليرموك خلال السبعينات الى اثنتي عشرة جامعة حكومية وما يزيد عن خمسة عشرة جامعة خاصة، وانتشرت المستشفيات الحكومية والخاصة حتى صار الاردن مزارا للدارسين وطالبي الاستشفاء، والخريجين الاردنيين كانوا نخبة في داخل الوطن وخارجه، وأصبح الاردن واحة للاستقرار والامن في منطقة حبلى بالثورات والصراعات، ثم كان ملاذا للاجئين العرب من فلسطين والعراق وسوريا واليمن.
ثم أن الحالة العربية في ظل ما زرعه الاستعمار في وطننا كقاعدة متقدمة له وهو الكيان الصهيوني الذي استنزف النظام العربي وباعد بين اقطاره في الرؤى والاهداف، فبينما كان الوطن العربي يجمع اشلاءه مما تركته جماعة الاتحاد والترقي التي تحكمت بالسلطان العثماني كان المستعمر الغربي يضع قوانينه ويرسم الحدود التي ابقت على خلافات هنا وهناك وزرع لدينا محتلا غاصبا كان خنجرا في الخاصرة.