إردوغان: طبق أسخن من مرق
اخبار البلد- بقلم: خالد البري
التعبير الفارسي «طبق أسخن من مرق» معناه المباشر «كاثوليكي أكثر من البابا»، لكن يظل التعبير الفارسي قادراً على توليد معانٍ أكثر.
في تعليقك على موقف الرئيس التركي بشأن السلام الإماراتي - الإسرائيلي، أو ترسيم مصر حدودها مع اليونان، ستسعفك صيغة أنه يريد أن يكون «كاثوليكياً أكثر من البابا»؛ تعني أنه نصب نفسه ولي أمر على أناس لم ينصبوه ولياً على أمرهم، يدعي معرفته بمصلحة المصريين والإماراتيين واليونانيين والإسرائيليين أكثر من أصحاب الشأن أنفسهم.
سيتوقف المعنى ها هنا.
لكن حين تصفه بأنه «طبق أسخن من مرق»، ستضيف إلى المعنى أبعاداً جديدة؛ سنرى مثلاً طبقاً ساخناً يهيئك نفسياً لمرق ساخن، فتكون صدمة المرق البارد أشد. تصريحات نارية ترفض السلام من مسؤول اعترفت بلاده بإسرائيل سنة 1949، وتولى الحكم في بلاده منذ 18 عاماً، ولا تزال العلاقات بين البلدين وطيدة.
سينقل التعبير بشكل أكبر هذا التناقض المنفر بين ظاهر تصريحاته وأفعاله، بين الحال التي يريد لبلده أن تحتفظ بها والحال التي يريد للآخرين أن يبقوا بلادهم فيها.
التناقض سيستمر حين تنظر إلى الموضوع من الناحية العكسية؛ هذا رجل قدم نفسه إلى العالم في مطلع الألفية على أنه الزعيم المسلم المحب للسلام، عضو الناتو، صاحب العلاقات القوية مع إسرائيل، على أنه التجسيد الكامل لكذب مقولة «صراع الحضارات» على خطوط تماس الإسلام مع الحضارات الأخرى. وهي مقولة كانت رائجة وقتها والعالم الغربي يتخيل شكل عالم ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وانهيار الكتلة الشرقية. الآن، صارت أنقرة تنافس طهران على رعاية الميليشيات، والكلام باسم الحرب المقدسة!
«طبق أسخن من مرق»؛ الطبق مصنوع من عنصر منفصل عن «الأمة» التي يريد أن يتحدث باسمها، وأن يرسم شكلها، وأن «يسقِّعَها» في حال باردة مهملة، بينما يختار هو لنفسه الحال التي تجذب الزبون.
شعور ولي الأمر، ووعاء الأمة، هذا هو ما يجمعه بإيران على اختلافهما. هو ما يجعلهما يتفاهمان حتى وهما نظرياً متحاربان. على أساس أن منطقة اللغة العربية، ومنطقة الكرد، الواقعة بينهما صيد يقتسمانه. يعتقدان أنهما الجديران وحدهما بالمسؤولية عن الشعوب القاصرة التي تحيط بهما. وهو لم يطلب من «شعوبه» سوى ما نالت طهران من شعوبها، من «حزب الله» في لبنان، ومن سوريا ما بعد الألفين، ومن العراق... لا يطلب سوى الامتثال والولاء. وقد ظن أنه نالها بولاء قطر، الخزينة والميكروفون، و«الإخوان المسلمين»، وجيوب هنا وهناك. وبالدعاية الساخنة التي قدمت له.
لم يدرك أن الناس ذاقت، وعلمت: «طبق أسخن من مرق».
المرق البارد في الطبق البارد يثير الاستنكار إن قدم لك. ستسرها في نفسك أن أهل البيت لا يحسنون الضيافة. أما المرق البارد في الطبق الساخن فيثير أكثر من الاستنكار؛ يثير الحيرة. فهمنا أنهم نسوا تسخين المرق، تحدث في «أحسن العائلات»، لكن سخنوا الطبق؟! هؤلاء أناس مشكوك في قواهم العقلية؛ لا يفهمون أين المهم، ويبذلون المجهود في الاتجاه الخطأ.
هكذا إردوغان؛ لديه مشكلات في حدوده البحرية في شرق المتوسط، لديه مشكلات مع جارتيه سوريا والعراق، الوضع الاقتصادي في تركيا، لو قيس بمنحنى الليرة، من سيئ إلى أسوأ.
لكن، بدلاً من محاولة التوصل إلى تفاهمات عبر علاقات جيدة مع جواره، يسخن ما لا يحتاج إلى التسخين؛ يحول فاتيكان مسيحيي الشرق (آيا صوفيا) إلى مسجد بعد قرابة القرن من تسوية القضية بالاتفاق على أن تبقى متحفاً مفتوحاً للجميع، يتدخل في القرارات السيادية للإمارات، وفي الشؤون الداخلية للسعودية ومصر، ويرسل قواته إلى ليبيا وقطر وسوريا والعراق.
ويبرد فقط علاقاته مع طهران؛ هل القوى العقلية في موضع الشك هنا؟
لا، بل دراما السياسة. سلوك الوصاية ثغرة نفسية إجبارية في العقلية التوسعية، تقودها إلى الفوز أو تجرها إلى الهاوية. وهو سلوك لا يقتصر على تركيا ولا إيران، هناك آخرون في العالم يمارسون الوصاية باسم معانٍ نبيلة، وبوسائل أقل وقاحة.
ما يجعل تركيا وإيران مختلفتين بصفتهما حالة استثنائية في العالم أن أساليبهما لا تنتمي إلى العصر الذي نعيش فيه. تجول سريعاً في قارات العالم الست، حاول أن تجد قوة إقليمية، ليست من الدول العظمى، تمارس الصلف وشعور الاستحقاق أنفسهما على جيرانها. حاول. لن تجد في أميركا الشمالية طبعاً، ولا الجنوبية، وليس في أوروبا، ولا في أفريقيا، ولا في شرق آسيا. حتى كوريا الشمالية مضبوطة بالتوازنات الدولية، وسلوكها فرع عن سلوك قوة عظمى، هي الصين.
إلا تركيا وإيران.
رايات جهادية استعمارية مستعارة من زمن سابق مرفوعة في وجه دولنا. الغلاف شعارات ساخنة خدعت كثيرين، لكن المحتوى شيء سمج منفر. هذا يسعى إلى هلال شيعي يصله إلى البحر، وذاك يسعى إلى خريطة عثمانية على البر والبحر، وامتدادات من عناصر محلية تعمل لصالح هاتين القوتين الاستعماريتين. تركيبة لا يمكن أن تجدها في أي مكان آخر على وجه الأرض في القرن الحادي والعشرين، تركيبة مركونة على الرف منذ زمن بعيد، باردة، فاسدة، منفرة، محيرة.
في تعليقك على موقف الرئيس التركي بشأن السلام الإماراتي - الإسرائيلي، أو ترسيم مصر حدودها مع اليونان، ستسعفك صيغة أنه يريد أن يكون «كاثوليكياً أكثر من البابا»؛ تعني أنه نصب نفسه ولي أمر على أناس لم ينصبوه ولياً على أمرهم، يدعي معرفته بمصلحة المصريين والإماراتيين واليونانيين والإسرائيليين أكثر من أصحاب الشأن أنفسهم.
سيتوقف المعنى ها هنا.
لكن حين تصفه بأنه «طبق أسخن من مرق»، ستضيف إلى المعنى أبعاداً جديدة؛ سنرى مثلاً طبقاً ساخناً يهيئك نفسياً لمرق ساخن، فتكون صدمة المرق البارد أشد. تصريحات نارية ترفض السلام من مسؤول اعترفت بلاده بإسرائيل سنة 1949، وتولى الحكم في بلاده منذ 18 عاماً، ولا تزال العلاقات بين البلدين وطيدة.
سينقل التعبير بشكل أكبر هذا التناقض المنفر بين ظاهر تصريحاته وأفعاله، بين الحال التي يريد لبلده أن تحتفظ بها والحال التي يريد للآخرين أن يبقوا بلادهم فيها.
التناقض سيستمر حين تنظر إلى الموضوع من الناحية العكسية؛ هذا رجل قدم نفسه إلى العالم في مطلع الألفية على أنه الزعيم المسلم المحب للسلام، عضو الناتو، صاحب العلاقات القوية مع إسرائيل، على أنه التجسيد الكامل لكذب مقولة «صراع الحضارات» على خطوط تماس الإسلام مع الحضارات الأخرى. وهي مقولة كانت رائجة وقتها والعالم الغربي يتخيل شكل عالم ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وانهيار الكتلة الشرقية. الآن، صارت أنقرة تنافس طهران على رعاية الميليشيات، والكلام باسم الحرب المقدسة!
«طبق أسخن من مرق»؛ الطبق مصنوع من عنصر منفصل عن «الأمة» التي يريد أن يتحدث باسمها، وأن يرسم شكلها، وأن «يسقِّعَها» في حال باردة مهملة، بينما يختار هو لنفسه الحال التي تجذب الزبون.
شعور ولي الأمر، ووعاء الأمة، هذا هو ما يجمعه بإيران على اختلافهما. هو ما يجعلهما يتفاهمان حتى وهما نظرياً متحاربان. على أساس أن منطقة اللغة العربية، ومنطقة الكرد، الواقعة بينهما صيد يقتسمانه. يعتقدان أنهما الجديران وحدهما بالمسؤولية عن الشعوب القاصرة التي تحيط بهما. وهو لم يطلب من «شعوبه» سوى ما نالت طهران من شعوبها، من «حزب الله» في لبنان، ومن سوريا ما بعد الألفين، ومن العراق... لا يطلب سوى الامتثال والولاء. وقد ظن أنه نالها بولاء قطر، الخزينة والميكروفون، و«الإخوان المسلمين»، وجيوب هنا وهناك. وبالدعاية الساخنة التي قدمت له.
لم يدرك أن الناس ذاقت، وعلمت: «طبق أسخن من مرق».
المرق البارد في الطبق البارد يثير الاستنكار إن قدم لك. ستسرها في نفسك أن أهل البيت لا يحسنون الضيافة. أما المرق البارد في الطبق الساخن فيثير أكثر من الاستنكار؛ يثير الحيرة. فهمنا أنهم نسوا تسخين المرق، تحدث في «أحسن العائلات»، لكن سخنوا الطبق؟! هؤلاء أناس مشكوك في قواهم العقلية؛ لا يفهمون أين المهم، ويبذلون المجهود في الاتجاه الخطأ.
هكذا إردوغان؛ لديه مشكلات في حدوده البحرية في شرق المتوسط، لديه مشكلات مع جارتيه سوريا والعراق، الوضع الاقتصادي في تركيا، لو قيس بمنحنى الليرة، من سيئ إلى أسوأ.
لكن، بدلاً من محاولة التوصل إلى تفاهمات عبر علاقات جيدة مع جواره، يسخن ما لا يحتاج إلى التسخين؛ يحول فاتيكان مسيحيي الشرق (آيا صوفيا) إلى مسجد بعد قرابة القرن من تسوية القضية بالاتفاق على أن تبقى متحفاً مفتوحاً للجميع، يتدخل في القرارات السيادية للإمارات، وفي الشؤون الداخلية للسعودية ومصر، ويرسل قواته إلى ليبيا وقطر وسوريا والعراق.
ويبرد فقط علاقاته مع طهران؛ هل القوى العقلية في موضع الشك هنا؟
لا، بل دراما السياسة. سلوك الوصاية ثغرة نفسية إجبارية في العقلية التوسعية، تقودها إلى الفوز أو تجرها إلى الهاوية. وهو سلوك لا يقتصر على تركيا ولا إيران، هناك آخرون في العالم يمارسون الوصاية باسم معانٍ نبيلة، وبوسائل أقل وقاحة.
ما يجعل تركيا وإيران مختلفتين بصفتهما حالة استثنائية في العالم أن أساليبهما لا تنتمي إلى العصر الذي نعيش فيه. تجول سريعاً في قارات العالم الست، حاول أن تجد قوة إقليمية، ليست من الدول العظمى، تمارس الصلف وشعور الاستحقاق أنفسهما على جيرانها. حاول. لن تجد في أميركا الشمالية طبعاً، ولا الجنوبية، وليس في أوروبا، ولا في أفريقيا، ولا في شرق آسيا. حتى كوريا الشمالية مضبوطة بالتوازنات الدولية، وسلوكها فرع عن سلوك قوة عظمى، هي الصين.
إلا تركيا وإيران.
رايات جهادية استعمارية مستعارة من زمن سابق مرفوعة في وجه دولنا. الغلاف شعارات ساخنة خدعت كثيرين، لكن المحتوى شيء سمج منفر. هذا يسعى إلى هلال شيعي يصله إلى البحر، وذاك يسعى إلى خريطة عثمانية على البر والبحر، وامتدادات من عناصر محلية تعمل لصالح هاتين القوتين الاستعماريتين. تركيبة لا يمكن أن تجدها في أي مكان آخر على وجه الأرض في القرن الحادي والعشرين، تركيبة مركونة على الرف منذ زمن بعيد، باردة، فاسدة، منفرة، محيرة.