لم تعترض تركيا الجمهورية وتركيا الاسلاموية يوما أو مرّة على تحويل إسرائيل مساجد فلسطين المغتصبة إلى خمارات وبارات ومراقص واسطبلات للحيوان. كما لم يعترض العالم عليه ايضا. ولم يفعل المسلمون شيئا يذكر حياله سوى الشجب والاستنكار في الليل لا في النهار، بينما انشغل بفعلة أردوغان لأن آيا صوفيا كنيسة تاريخية ذات دلالة وليست مجرد كنيسة أو مسجد.
عندما احتل المسلمون سورية والأندلس حولوا كثيرا من الكنائس إلى مساجد. وعندما استرجع الأسبان الأندلس بحرب الاسترداد بادروا إلى تحويل مساجدهم إلى كنائس، أو إلى غير ذلك.
كنت أتمنى لو أن أردوغان حول كنيسة/ متحف/ مسجد آيا صوفيا إلى معبد ديني مشترك لجميع الأديان في تركيا، كالذي حلمت به. ولعله أعظم حلم في التاريخ، بتحول المعبد المشترك إلى جامع يصلي فيه المسلمون بعد ضغط على زر فترتفع مئذنة، ويصلي فيه المسيحيون بعد ضغط على زر فيرتفع الجرس. ويصلي فيه اليهود بعد ضغط على زر فيتحول إلى كنيس، وهكذا. وتبلغ العظمة ذروتها، ويحقق الوئام والسلام مجدهما بتخصيص يوم في الأسبوع لعبادة «إبراهيمية» مشتركة. هذا هو حلمي (ظهر في فيسبوك في 22/7/2020).
لو فعل أردوغان ذلك لنال إعجاب العالم وتقديره وكان الرائد به. كما كان ذلك سيمكنه من الاعتراض على ما تقوم به إسرائيل في مساجد فلسطين، وفي اي بلد في العالم يسيطر التعصب الديني عليه.
ولكن لما كان أردوغان لا يؤمن بالثقافة الإنسانية والديمقراطية الرفيعة، وزائد الثقة في النفس إلى حد الغرور، فقد اختار العكس، مما يتوقع وقوعه على «زلاطيمه» أو على زمكه داخليا أو خارجيا، أو بكليهما، وككل القادة السابقين بثقة كل منهم الزائدة عن الحد في النفس من نابليون إلى هتلر، ومن المرحومين عبدالناصر، وصدام، والأسد، والقذافي، وبن علي، إلى البشير، إلا إذا كان أردوغان فريدا وشاذا عن القاعدة، فلا يقع.
لقد جذب انتباهي قول أردوغان في الرد على منتقديه في قراره بتحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد: «اتخذنا هذا القرار ليس استنادا إلى ما سيقوله الآخرون، بل في ضوء حقوقنا كما فعلنا في سورية وليبيا واي بلدٍ آخر»(الغد في 17/7/2020). وكأن سورية وليبيا واي بلد آخر يضع رجله فيه يصبح شأنا تركيا داخليا. وهو تفكير هتلري خطير يجب أن ينبَّه العرب وغيرهم إلى المطامع الأردوغانية في أوطانهم.
بهذا التصريح الفظيع يبدو أردوغان وكأنه يلعب على عدة حبال في الوقت نفسه، ويتحدى العالم بها، وبخاصة سورية والعراق وليبيا واليونان وقبرص ولبنان ومصر وربما تنضم أرمينيا إليها، معتمدا على قدرته على ابتزاز أوروبا باللاجئين، فتسكت، وعلى عضوية تركيا في حلف الأطلسي فيؤيده، وعلى الضعف العربي العام والخاص، وربما على وعد من ترامب بالدعم برشوة/ صفقة متفق عليها بينهما يحصل عليها ترامب من تركيا فيما بعد.
غير أن «حكي القرايا» قد لا يتطابق مع «حكي السرايا»، لأن اليونان الواقفة له بالمرصاد تعتمد هي الأخرى على أوروبا اتحادا، وعلى حلف الأطلسي ميثاقا الأقرب ثقافيا إليها من تركيا، وعلى روسيا الأقرب إليها مذهبيا، ولن تتركها تقع فريسة سائغة لتركيا مهما كلف الأمر. كما لم يعد حلف الأطلسي فاعلا كما كان قبل انهيار حلف وارسو ونشوء علاقات عضوية (بأنابيب الغاز) بين روسيا وأوروبا، تجعل تعاون الطرفين في دعم اليونان محتملا جدا.
وعليه فإن أحد الحبال أو كلها التي يلعب أردوغان عليها قد ينقطع ويسقط في الحفرة، وخاصة لوجود قوى داخلية قوية كردية وتركية تتربص بأردوغان الذي يفتك بالأكراد بشريا وأحلاما ويلاحقهم حتى خارج تركيا في سورية والعراق، والذي طرد –كذلك- عشرات الآلاف من العسكريين والمدنيين من أعمالهم وسجنهم وقطع ارزاقهم.
وعليه فإن من المحتمل تحول الاحتكاكات بين تركيا واليونان في بحر إيجة أو بالقرب من قبرص في أي لحظة إلى حرب شاملة، فالجرح التركي في النفس اليونانية عميق جدا، ولا يقل عمقا عن الجرح الصهيوني في النفس الفلسطينية، فآسيا الصغرى بما في ذلك القسطنطينية –تاريخيا- كانت إغريقية، أي قبل زحف الأتراك العثمانيين الرُحّل ولكن المقاتلين الاشداء عليها واحتلالها واستيطانها، وطرد اليونان منها، وضم أجزاء من أرضها الأوروبية إليهم، والقسطنطينية (إسطنبول) كانت عاصمة الامبراطورية البيزنطية، وعاصمة الأرثوذكس المقدسة، وهي عندهم مقدسة مثل قدسية مكة والمدينة والقدس عند المسلمين، مما يجعل الجرح لا يندمل ولا يشفى بالسياسة التركية الاستحواذية التوسعية الراهنة، إلا باستعادة اليونان لهما.