أزمة العالم العربي بين حضور الحق وغياب القوة

اخبار البلد-

 

لا يوجد حقٌّ متحقق وجلي وواضح، من دون أن يستند إلى قوة تحميه.
في الجامعة كنَّا ندرس «نظرية القوة» ضمن ما ندرسه في «مادة النظرية السياسية»، أساس هذه النظرية يقوم على تأثير القوة في القرار والمصير السياسي، لذلك جميع التكتلات الدولية في العالم أخذت في الاعتبار حين تأسيسها مبدأ القوة، فنجد الأمم المتحدة أثناء تأسيسها عام 1945 كوَّنت قوات حفظ السلام، وهكذا الاتحاد الأوروبي وما لديه من قوة رادعة (الناتو) للدفاع والحماية.
ومع تجارب التاريخ العربي، يتضح أنّنا طيلة الوقت كانت أذرعنا مكسورة، فلم نتوحد معاً ضد أعدائنا، وهم كثر، لكن الأذرع نفسها التي هي عاجزة أمام الأعداد تتحول إلى أذرع فتية وقوية حين تكون ضد نفسها.


***
الجامعة العربية التي تأسست في نفس عام تأسيس الأمم المتحدة 1945، مرت بتجارب مؤلمة في فكرة العداء والتهديد الوجودي، فبعد إنشائها بـ3 أعوام تأسس الكيان الإسرائيلي عام 1948، واضطر العرب إلى أن يخوضوا «حرب 48»، وتوحد العرب، وكادوا ينتصرون، لولا أشياء كثيرة. لكنهم ذاقوا طعم التوحد، والعمل الدفاعي المشترك، لذلك نجحوا في أعقاب هذه الحرب أن يؤسسوا اتفاقية الدفاع العربي المشترك.
صحيح أنها غرقت في تحديات وخلافات عربية جعلتها في معظم الأوقات حبراً على ورق، إلا أنها كانت أحياناً ترى النور في بعض المطبات الوجودية العربية، فرأيناها مثلاً متحققة في حرب العاشر من رمضان، السادس من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، بل كانت جزءاً وسبباً مهماً في إحراز الانتصار المجيد.


***
منذ خمسينات القرن الماضي، كان العدو واحداً، وهو إسرائيل، والتهديد يكاد يكون واحداً، وهو الصهيونية. لكن مع دخولنا الألفية الثالثة، وتحديداً بعد احتلال العراق وسقوط نظام صدام حسين، برز عدو جديد، ومشروع استعماري يستمد شراسته من أطماع الماضي، وهو المشروع الإيراني المذهبي. كان الرجاء والتمني وقتها لو كانت للعرب ذراع دفاعية قوية، وماذا لو كانت للحق العربي قوة تحميه؟!


***

تراجع المشروع الاستعماري الصهيوني قليلاً، رغم بقاء خطورته، لكنه ظلّ محدوداً في جغرافيا عزيزة علينا جميعاً، وهي فلسطين والجولان السورية. في المقابل، احتلّ المشروع الإيراني صدارة الشراسة مع الألفية الثالثة، وظل هكذا حتى لحظات كتابة هذا المقال.

وانضاف إليه مشروع استعماري آخر، مشروع يستعيد من ميراثه القديم، حضور ما في الكعكة العربية المفتتة، إنه «المشروع الإردوغاني التركي» الذي هو امتداد لمشروع عثماني قديم، بات إردوغان عثمانياً جديداً، يتتبع الرقعة الجغرافية التي كان يحتلها أجداده العثمانيون القدامى.
زمانية المشروع العثماني الجديد تواكبت وانطلقت مع موجة الربيع العربي الأولى في 2011. وتحديداً مع ظهور التيار الإسلامي السياسي، وخصوصاً «الإخوان» في مصر، فبدا وقتها في تسمين الأذرع «الإخوانية» لتنوب عنه في معاركه في المنطقة، وقد تحقق ذلك بمساعدة الخزينة القطرية المفتوحة دائماً على الأذى.
سقط «الإخوان» تحت أقدام الشعب المصري في 30 يونيو (حزيران) 2013، لكن إردوغان تحرك إلى تونس، واستقر في جغرافية سوريا، محتلاً مناطق كبيرة بحجة خوفه من الكرد. ومع الوقت انطلق ليأخذ من البشير المخلوع جزيرة سواكن السودانية، التي كانت مقرّ توريد الرق إلى مملكة أجداده، لكن الشعب السوداني أسقط البشير، ومعه سقطت أطماع إردوغان هناك.
بعدها تحرك إلى بقعة عربية أخرى، ليستقر في طرابلس تحت شعار دعم حكومة السراج وحمايته، وعينه على كعكة النفط الليبي، وعلى كعكة غاز شرق المتوسط. ليس بعيداً عن طرابلس يتحرك إردوغان إلى البحر الأحمر، وتحديداً إلى الصومال، ليقيم فيها أكبر قاعدة عسكرية تركية خارج الأراضي التركية هناك، ومنها ينازع السيطرة على البحر الأحمر.
ومؤخراً، بدأ محاولة احتلال شمال العراق «إقليم كردستان العراق»، وهو بذلك يريد أن يعيد ربط الجغرافية العربية لصالح شمال العراق، مع المناطق التي يحتلها في سوريا مع مرتزقته التي يصدرها إلى ليبيا. هلال عثماني، استعماري تماماً مثل الهلال الإيراني الخميني، الذي امتد من لبنان إلى سوريا إلى العراق إلى اليمن.
تناغم مرعب بين المشروعات الاستعمارية على الجغرافيا العربية، الخريطة العربية تتآكل، تنقص من أطرافها. في المحصلة، بتنا في 2020 محشورين بين كلابتين، بين مطرقة وسندان، بين أنياب وأطماع في عدة اتجاهات، كلابة الإيرانيين وكلابة العثمانيين، والمشروع الصهيوني متمسك بما سرقه، وسعيد بأمة يأكل بعضها بعضاً.
****
مؤخراً، خرج الرئيس عبد الفتاح السيسي من على الحدود المصرية الليبية ليوجه خطاباً، وصفه كثيرون بأنه حمل بين طياته «النار والماء»، العصا والجزرة.خطاب تمنَّى العالم العربي لو سمع مثله قبيل احتلال العراق في مواجهة الإيرانيين والأميركان، وخطاب رأيناه وفرحنا به في «عاصفة الحزم» 2015 حين اجتمع العالم العربي في مواجهة الإيرانيين، وهم يريدون ابتلاع اليمن الشقيق، نحن هنا أمام متغيرات متفائلة، لكنها انفرادية.
موقف السعودية القوي عسكرياً ودبلوماسياً في مواجهة الأطماع الإيرانية تجاه اليمن يحول دون تكرار مأساة العراق في 2003. الموقف نفسه تتخذه مصر مؤخراً تجاه الأطماع العثمانية في ليبيا.
وفي الموقفين إعلان قوة عسكرية، وقوة مماثلة في المساعي الدبلوماسية. لكنها مواقف فردية، أو مدعومة من بعض العرب.

 


***
هنا أعود إلى ما طرحته المملكة العربية السعودية في القمة العربية بشرم الشيخ عام 2015، ودعوتها إلى ضرورة إنشاء قوة عربية عسكرية مشتركة للتدخل السريع، ولحفظ الأمن، وتحقيق السلام وحماية الأمن القومي العربي. أمل بزغ فجأة وسط ظلام عربي دامس عام 2015، وفجأة اختفى، بزغ بكثير من الأسباب والمنطق والحاجة، واختفى بكثير من عدم المنطق والحزن.
الآن، نعيد التذكير بما في جعبتنا من أحلام، ربما تتحقق، أو نعيد ما في جعبتنا من وجع، ربما يزول!