هَمُّ الَّليْلِ وَذُلُّ النَّهَارِ
بسم الله الرحمن الرحيم هَمُّ الَّليْلِ وَذُلُّ النَّهَارِ الكاتب : منتصر بركات الزعبي Montaser1956@hotmail.com إنَّ مِنْ وسائلِ شريعةِ الإسلامِ في حفظِ نظامِ الأمةِ , وحياتها , واستدامةِ صلاحِها واستقامتِها , أنَّها أعطت حقوق العباد مكانتها الأسمى , من الاعتناء والاهتمام , ومنزلتها العظمى من التقدير والاحترام . ومن ذلك ما قامت به شريعة الإسلام من تأمين أصحاب الحقوق حفظا وصيانة , حتى قرّر أهل العلم قاعدتهم المشهورة { حقوقُ العبادِ مبنيةٌ على التضييق والمُشَاحَّة , وحقوق الله مبنية على التيسير والمُسامحة } قال الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ )) النساء29 وقال – صلى الله عليه وسلم – (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وأعراضكم عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ) وإنَّ من ضمانات حقوق العباد التي أرسى الإسلام أصولها , ونظَّم قواعدها , وجعل لها من الأسس والضمانات ما يكفلها , قضية : " الديون الخاصة بالآدميين " . عن عُقبَة بن عامر – رضي الله عنه – أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( لا تُخِيفوا أنفُسَكم بعد أمنها ) . قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : ( الدَّين ) [صحَّحه الألباني في صحيح التَّرغيب]. عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوصِي رَجُلا ، وَهُوَ يَقُولُ لَهُ : " أَقِلَّ مِنَ الذُّنُوبِ يَهُنْ عَلَيْكَ الْمَوْتُ ، وَأَقِلَّ مِنَ الدَّيْنِ تَعِشْ حُرًّا ) البيهقي : شعب الإيمان . وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( أعوذُ بالله من الكُفْرِ والدَّين ) فقال رجل : يا رسول الله أتعدلُ الكفرَ بالدَّين ؟ قال : ( نعم ) . صحيح ابن حبان فكيف يكونُ ذلك ؟ أليس عَدمُ الوفاء بالدَّين أمرًا صعباً ؟ له مخاطره على آخِرَة المسلم ومَنْزِلته , أليس عدم الوفاء بالدين اعتداءً على حقوق الغير ظلمًا وعدوانًا ؟ بعد أن سهَّلَ عليك أمرك , وفرَّج كربك , وأعانك في شدَّتِك , ومحنتِك تقابله بالنكران وهذا من اللؤم . رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( مَنْ فارقَ رُوحُهَ جسَده وهو بريءٌ من ثلاثٍ دخلَ الحنَّةَ : الغلولُ , والديّنُ , والكبْرُ ) [رواه ابن ماجه وصحَّحه الألباني].. ولقد حذَّر الرسول – صلى الله عليه وسلم – من الاستدانة وتشدد في ذلك , عن محمد بن عبد الله – رضي الله عنه – قال : ( كنَّا بفناء المسجد , إذْ رفع رأسَه إلى السماء , ثم خفض , فضرب بيده على جبْهتِه , ثم قال : ( سبحان الله ! ماذا نزل من التشديد ؟ ) فهِبْنَا أن نُكلِّم النبي – صلى الله عليه وسلم – وتفرَّقنا عنه , فلما كان من الغد , جاءه رجل ممن سمع مقالته بالأمسِ , فقالَ : يا رسول الله : التشديدُ الذي نزل ما هو ؟ قال : ( في الدَّين . والذي نفسً محمدٍ بيده , لو أنَّ عبدًا قُتِل في سبيل الله , ثم عاش , ثم قتل , ثم عاش , ما دخل الجنَّة , حتى يُقضَى عنه دينه ) حسَّنه الألباني في صحيح التَّرغيب . وعن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه – رضي الله عنهم – قال : جاء رجل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله , أرأيتَ إنْ قُتلتُ في سبيل الله كفَّر اللهُ عني خطايايَّ ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنْ قُتِلتَ في سبيل الله , صابرًا محتسبًا , مُقبلا غير مُدبرٍ , كفَّر الله عنك خطاياك ) فلمَّا جلسَ دعاه فقال : ( كيف قلتَ ؟ ) فأعاد عليه فقال : ( إلا الدَّين , كذلك أخبرني جبريل ) أخرجه مسلم . لهذا كلِّه كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يستعيذ بالله تعالى منه , فكان إذا أصبح وإذا أمسى يقول : ( الَّلهمَّ إني أعوذ بك من الهمِّ , والحَزَن , وأعوذ بك من العجزِ والكسل , وأعوذ بك من الجُبْنِ والبخل , وأعوذ بك من غَلَبة الدَّين وقهر الرجال ) رواه أبو داود . إنَّه همٌّ بالليل ومذلة بالنهار . ويجب على كل مَنْ استدان شيئاً , أن ينوي الوفاءَ به , فالذي يكونُ في نيته عدم الوفاءِ يُعَدُّ سارقًاً وخائنا , عن صُهيب الخير – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ( أيُّما رجل تداين دينا , وهو مجمع أن لا يوافيه إياه : لقيَ اللهَ سارقا ) [ رواه ابن ماجه وقال الألباني: حسنٌ صحيحٌ وروى الطَّبراني بسندٍ صحَّيح عن ميمون الكردي عن أبيه -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: ( أيما رجلٌ استدان دينًا لا يريد أن يؤدِّي إلى صاحبه حقَّه ؛ خدَعه حتَّى أخذ ماله، فمات ولم يؤد إليه دَيْنَه ؛ لقي اللهَ وهو سارقٌ» [صحَّحه الألباني في صحيح التَّرغيب . بل لقد رُوي أن عدم الوفاء بالدَّين من الآثام التي يلحقها القصاص , قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إنَّ الدَّين يقتص من صاحبه يوم القيامة إذا مات , إلا من تديَّن بدين في ثلاث خلال : الرجل تضعف قوته في سبيل الله , فيستدين يتقوى به على عدوِّ الله وعدوِّه , ورجل يموت عنده مسلم , ولا يجد ما يكفنه ويواريه إلا بدَّين, ورجل خاف على نفسه العُزبة , فينكح خشية على دينه , فإنَّ الله يقضي عن هؤلاء يوم القيامة ) ابن ماجه والبزار . ويظهر من هذا , أنَّ الله يعذُر من يضطرُ إلى الدين لأزمْات شِداد , أمَّا الذي تمر بنفسه شهوة , ولا يستطيع تلبيتها من ماله , فيسارع إلى الاقتراض من غيره غيَر آبه للتبعات , ولا مهتم لطريق الخلوص من دينه , كما وصفه الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأنه سارقٌ جريء . انظروا إلى فهم الصحابة – رضوان الله عليهم – فعن أبي الدرداء – رضي الله عنه – أنه كان يقف حين ينتهي الدرب في ممر الناس للجهاد , فينادي نداءً يُسمِعُ الناس : " يا أيها الناس من كان عليه دين لم يدع له وفاء فَلْيَرْجِعْ , ولا يتبعْنِي فإنه لا يعود إلا كفافًا " . ألا تدرون إخوتي وأخواتي : لِمَ كلُّ هذا التشديد في سداد الديون ؟ لأنَّ نفس المؤمن مرتهنةٌ بدينه حتى يُقضى عنه , فلذلك كان من الواجب عليك , أن تحاولَ قدْرَ جهدك سداد دينك قبل الموت , فإن لم تستطع , فعليك أن توصي اهلك بالإسراع بقضاء دَينك بعد الموت . قال الله تعالى : ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ )) [النساء ] فنَفْسُ المؤمن معلقة بدينه حتى يُقضَى عنه , عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – : ( نفسُ المؤمن مُعلَّقة بدينه حتى يُقضَى عنه ) رواه التِّرمذي وابن ماجه وصحَّحه الألباني . وعن سُمرَة بن جُندب – رضي الله عنه – أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صلَّى على جنازة فلمَّا انصرف قال : (هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي فُلاَنٍ ؟ فَنَادَى ثَلاَثًا فقام رجل فقال : أنا يا رسول الله , فقال : ما منعك أن تقوم في المرتين الأوليَّين , أما إني لم أبُوءْ باسمك إلا الخير ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي مَاتَ بَيْنَكُمْ قَدِ احْتُبِسَ عَنِ الْجَنَّةِ مِنْ أَجْلِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ ، فَإِنْ شِئْتُمْ فَافْدُوهُ ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَأَسْلِمُوهُ إِلَى عَذَابِ اللَّه ) قال : فلقد رأيتُ أهله ومن تَحَزَّنَ بأمره , قام فقضَوا ما عليه حتى ما بقي عليه شيء . رواه أبو داود وحسَّنه الألباني]. يقول سيدنا علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم– إذا قيل أُتِي بالجنازة , لم يسأل عن شيء من عمل الرجل , ويسأل عن دَيْنِهِ , فإن قيل : عليه دَيْن , كفَّ عن الصلاة عليه , وإن قيل : ليس عليه دَين صلَّى عليه , فأُتِي بجنازة فلمَّا قام لِيُكَبِّرَ, سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هل على صاحبكم دين ؟ قالوا : ديناران , فعدَل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقال : صلُّوا على صاحبكم , فقال عليّ – رضي الله عنه - هُما عليَّ يا رسول , بريء منهما , فتقدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم قال لعليّ : ( جزآك الله خيرا , فكَّ الله رهانك كما فككت رهان أخيك , انه ليس ميِّتٌ يموت وعليه دين إلا وهو مُرتَهنٌ بدينه , ومن فكَّ رهان ميِّت , فكَّ الله رهانه يوم القيامة فقال بعضهم : هذا لِعَليّ خاصة أم للمسلمين عامَّة ؟ قال : للمسلمين عامة ) البيهقي السنن الكبرى الحذر كل الحذر أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم : {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ }الأعراف102 وقال – صلى الله عليه وسلم – : ( لا أيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) رواه أحمد وابن حبان . اللهمَّ أغننا بحلالك عن حرامك , وبفضلك عمَّن سواك يا أرحم الراحمين .