تلك آثارنا تدلُّ علينا

اخبار البلد ـ إعتدنا كأردنيين أن نردد مقولة تؤكد ان الأردن متحف من شماله إلى جنوبه، وأنه لو سورنا الأردن لكنا نعیش في اعتدنا كأردنیین أن نُردّ متحف لا مثیل لھ، وھذه مقولة صحیحة، فمع أننا نتحدث عن مساحة صغیرة، لكنھا ثمینة بما تحویھ من آثار للعصور المتعاقبة ما قبل التأریخ، وللعصور التاریخیة كلھا، وربما كان للموقع المتمیز دوره في نشوء كل ھذه الحضارات على أرض الأردن، الذي یربط آسیا العربیة بإفریقیا العربیة، وشبه جزیرة العرب ببلاد الشام والھلال الخصیب.

على أرض الأردن نشأت أقدم قریة في العالم في موقع عین غزال، واقدم المدن في جاوة، وتتابعت الحضارات المحلیة من الجنوب إلى الوسط والشمال ما بین الأدومیین والمؤابیین والعمونیین والسریان، وكانت الحضارات العالمیة تتطلع للسیطرة على الطرق التجاریة التي تربط البحر الأبیض المتوسط والبحر الأحمر، بالطرق البریة التي تحمل تجارة عرب الجنوب، وفیما بعد عرب الشمال، وعلى أرضنا تمیزت حضارة الأنباط الذین وصلوا العالم القدیم بتجارتھم، ونجحوا في استثمار المیاه للزراعة، وسیطروا على طرق القوافل، وعرفوا كیف یجعلون من ثروات البحر المیت سلعة للتحنیط لدى فراعنة مصر، وكانت عاصمتھم الثانیة في «أم الجمال» مركزا للتجارة توازي البترا، فاجتذبت ھذه المیزات قوى الغرب الحضاریة من یونانیة ورومانیة، وأشوریة وفرعونیة، وأحفاد السلوقیین والبطالمة، والفرس، ّ والبیزنطیین، كل ھذه الحضارات مرت على شرقي نھر الأردن، وتركت فیھ روائع الآثار التي ما زالت بیننا تشھد على العصور السابقة على ظھور الإسلام، ومن ھذه الأرض بدأت الفتوحات الإسلامیة، وعلى أرضھا تركت الدولة الأمویة قصور الخلفاء، وفي كل زاویة منھا تركت الدول الإسلامیة المتعاقبة مبانیھا ومؤسساتھا، من مساجد وكنائس وأسواق وبقایا مبان وطرق، في العصور العباسیة والفاطمیة والأیوبیة والمملوكیة وأخیرا العثمانیة، وكل ھذه الاثار تشھد على القیمة العظیمة للموقع، وعلى دور الأھالي عبر العصور بالمشاركة في بناء ھذه الحضارات، بحیث تحققت مقولة الأردن متحف.

وبمناسبة اقتراب احتفائنا بمئویة الدولة الأردنیة التي قامت على ھذه الأرض عام 1921م، وجمعت عبقریة أھالي بلاد ّ الشام والحجاز والعراق في إدارتھا، وشكلت حالة استثنائیة بقیادة الملك المؤسس عبد الله بن الحسین، فإن مراجعة ّ الكیفیة التي أدارت بھا الدولة ملف الآثار على أرضھا، یجعل من دراسة الحالة المؤسسیة لدائرة الاثار مسألة مطلوبة، وھي مراجعة لكیفیة فھم القیادات الأردنیة المبكرة للقیمة الحضاریة التي تمثلھا آثار الأردن، ومن مراجعتنا لأخبار الأردن من خلال الصحافة مع اول سنوات التأسیس، نقرأ في جریدة البشیر الصادرة في نیسان عام 1922م، عن تأسیس «مجلس المعارف العالي» (.. للسعي في ترقیة الدروس والعلوم، ویعتني بتاریخ وجغرافیة بلاد شرقي الأردن ّ الغنیة جدا بالآثار القدیمة النفیسة،.. وتم تعیین أول عضو فیھ الأرشمندریت میشیل عساف رئیس طائفة الكاثولیك بالسلط لما سبق لحضرتھ من الكتابات عن تاریخ وآثار ھذه البلاد الشرقیة، ویتم إنشاء متحف في عمان، یجمع فیھ ما تصل إلیھ الید من الكتابات القدیمة والنواویس الرومانیة والنقوش الجمیلة النبطیة وغیرھا، فتكون من أجمل المتاحف ..) السوریة، لما یتوفر في ھذه البلاد من الأنقاض النفیسة النادرة الوجود.

وكان الأمیر عبد الله بن الحسین قد اوعز بنشر كتاب الأب عساف في التأریخ لعمان، وأبدى تقدیره لھذا الجھد، وقام رئیس مجلس النظار (الوزراء) رضا الركابي بمتابعة ھذا التوجھ، وأمر برفع التراب وسائر أنواع الأنقاض عن المسرح الروماني بعمان حسبما ذكر مراسل جریدة البشیر التي تصدر في بیروت، وذلك في شھر آب من عام 1922 م .

ویبدو أن الاھتمام بالآثار اتخذ حالة مؤسسیة منذ بدایات نشوء الدولة الأردنیة، فقد نشرت الجریدة الرسمیة «الشرق العربي: اعتبارا من عام 1926م انضمام الفیلسوف التركي رضا توفیق إلى المجلس التنفیذي (الوزراء) باعتباره (محافظ الاثار)، وكان رضا توفیق من المقربین من الأمیر عبد الله بن الحسین، وتذكر الجریدة الرسمیة ان رضا ّ توفیق تبر ّ ع بمكتبتھ التي تضم أربعة آلاف مجلد لإقامة نواة للمكتبة العامة في المسجد الحسیني، وذلك عام 1924م، عندما زار الشریف الحسین بن علي (ملك العرب) عمان، وبایعه أھالي الإمارة وفلسطین ومدن بلاد الشام بالخلافة.

ھذه ھي بدایاتنا في الدولة الأردنیة في الحفاظ على كنوز الحضارات التي تحفظھا الآثار على أرضنا، وھي تؤشر على ُّ تلك آثارنا تدل علینا أن الدولة عملت على المحافظة على الآثار بوعي، بحیث جعلت ملف الاثار یُدار بشكل مؤسسي بنشوء دائرة للآثار، وبعد مرور قرن من الزمان نجد أن استثمار ھذه الكنوز في حقل السیاحة حالة مطلوبة، وتشكل مصدرا من مصادر دخل الوطن، وعلینا الحفاظ على ھیبة الدائرة واستمراریة عملھا الفني والأكادیمي والمؤسسي، طالما أن الأجداد حملوا ھذا الوعي، وكانت بدایات الدولة تؤكد على العمل المؤسسي في إدارة الآثار التي تحفظ تاریخنا على ھذه الأرض المباركة، ونحن الیوم و الحمد نملك القدرات والطاقات الأكادیمیة والفنیة، ولدینا العدید من الباحثین المتخصصین الذین أداروا منذ الثمانینیات من القرن الماضي (المؤتمر الأردني العالمي للتاریخ والآثار)، وأغنوه بأبحاثھم ودراساتھم لكنوزنا الثمینة على أرضنا من الآثار الحضاریة، وختاما ونحن نقترب من المئویة الأولى للدولة الأردنیة، نرجو ان نعطي لھذه الكنوز دورھا في عنایتنا، وأن نركز على المؤسسیة التي تمثلھا دائرة الآثار، وأن نثق بإمكاناتھا الأكادیمیة والفنیة والإداریة، فنحن نملك وطنا یستحق أن نحافظ على تاریخھ بالمحبة الكبیر.