مختارات من الأدب الكبير لعبد الله بن المقفع (3-2)
إذا سأل الوالي غيرك- من الحضور- فلا تكونن المجيب عنه. فإن استلابك الكلام خِفّةٌ بك واستخفاف منك بالمسؤول وبالسائل. وما أنت قائل إن قال لك السائل: ما إياك سألت؟ أو قال لك المسؤول عند المسألة يعاد له بها: دونك فأجب. وإذا لم يقصد السائل في المسألة رجلا واحدا وعمّ بها جماعة من عنده فلا تبادرن بالجواب، ولا تسابق الجلساء، ولا تواثب بالكلام مواثبة. فإن ذلك يجمع من شين (عيب) التكلف والخفة أنك إذا سبقت القوم إلى الكلام صاروا لكلامك خصماء فتعقبوه بالعيب والطعن. وإذا أنت لم تعجل بالجواب وخليته للقوم، اعترضت (عرضت) أقاويلهم على عينك (مَهْلك)، ثم تدبرتها وفكرت في ما عندك، ثم هيأت من تفكيرك ومحاسن ما سمعت جواباً رضياً، ثم استدبرت به أقاويلهم حين تصيخ إليك الأسماع ويهدأ عنك الخصوم. وإن لم يبلغك الكلام حتى يُكتفى بغيرك، أو ينقطع الحديث قبل ذلك، فلا يكون من العيب عندك ولا من الغبن في نفسك فوت ما فاتك من الجواب. فإن صيانة القول خير من سوء وضعه، وإن كلمة واحدة من الصواب تصيب موضعها خير من مائة كلمة تقولها في غير فرصها ومواضعها. مع أن كلام العجلة والبدار موكلّ به الزلل وسوء التقدير، وإن ظن صاحبه أنه قد أنهى وأحكم.
إذا كلمك الوالي فاصغ إلى كلامه، ولا تشغل طرفك عنه بنظر إلى غيره، ولا أطرافك بعمل، ولا قلبك بحديث نفس.
لا تجترئن على خلاف أصحابك عند الوالي، ثقة (منك) باعترافهم لك ومعرفتهم بفضل رأيك، فإنا قد رأينا الناس يعترفون بفضل الرجل وينقادون له ويتعلمون منه، وهم أخلياء (منفردون). فإذا حضروا الوالي، لم يرض أحد منهم أن يُقرّ له، ولا أن يكون له عليه في الرأي والعلم فضل، فاجترأوا عليه بالخلاف والنقض. فإن ناقضهم صار كأحدهم. وليس بواجد في كل حين سامعاً فهماً أو قاضياً عدلاً. وإن ترك مناقضتهم، كان مغلوب الرأي مردود القول.
إن الآنسة روح للقلوب، وأن الوحشة روع عليها.
واعلم أنه يكاد يكون لكل رجل غالبة حديث لا يزال يحدث به. إما عن بلد من البلدان أو ضرب من ضروب العلم أو صنف من صنوف الناس أو وجه من وجوه الرأي. وعندما يُغرم به الرجل من ذلك يبدو منه السخف، ويُعرف منه الهوى، فاجتنب ذلك في كل موطن.
إن أردت أن تلبس ثوب الوقار والجمال وتتحلى بحلية المودة عند العامة وتسلك الجَدَد (الأرض المستوية) الذي لا خبار فيه ولا عثار فكن عالماً كجاهل وناطقاً كعيي. العلم يزينك ويرشدك. ولكن قلة ادعائه تنفي عنك الحسد. وأما المنطق -إذا احتجت إليه- فيبلغك حاجتك. وأما الصمت فيكسبك المحبة والوقار.
وإذا رأيت رجلاً يحدّث حديثاً قد علمته أو يخبر خبراً قد سمعته فلا تشاركه فيه ولا تتعقبه عليه، حرصاً على أن يعلم الناس أنك قد علمته (قبله)، فإن في ذلك خفةً وشحاً وسوء أدب وسخفاً.
ليعرف إخوانك والعامة أنك، إن استطعت، وإلى أن تفعل ما لا تقول أقرب منك إلى أن تقول ما لا تفعل، فإن فضل القول على الفعل عار وهُجنة، وفضل الفعل على القول زينة.
احفظ قول الحكيم الذي قال: لتكن غايتك فيما بينك وبين عدوك (الشخص) العدل، وفيما بينك وبين صديقك الرضا. وذلك أن العدو (الشخصي) خصم تهزمه بالمحبة وتغلبه بالحكام، وأن الصديق ليس بينك وبينه قاض، فإنما حكمه رضاه.
سمي الصديق من الصدق، وسوء الأصدقاء أضرّ من بعض الأعداء.
البس للناس لباسين ليس للعاقلِ بدٌّ منهما، ولا عيش ولا مروءة إلا بهما: لباس انقباض واحتجاز من الناس، تلبسه للعامة فلا يلقونك إلا متحفظاً متشدداً متحرزاً مستعداً. ولباس انبساط واستئناس، تلبسه للخاصة الثقات من أصدقائك فتلقاهم بذات صدرك وتفضي إليهم بمصون حديثك وتضع عنك مؤونة الحذر والتحفظ في ما بينك وبينهم.