عن الموجة العميقة في الحراك الشعبي
في الحراك الشعبي الأردني موجة عميقة لم ترها النخب بعد. فخارج يوميات السياسة والمطالب, هناك الأهمّ: الشعب الأردني يتمرد على غيابه التاريخي عن ذاته, ويعيد اكتشاف نفسه ويحدد تموضعه الوطني والاستراتيجي. النخب لا ترى. ولذلك ستظل عاجزة عن الفهم والتفهم والانخراط في الزمن الجديد. الموالاة والمعارضة كلتاهما ما تزال تعمل خارج السياق السسيوثقافي الوطني الذي يفرض نفسه. فحتّام ? يمكن للموالاة أن تبدأ من القول بأولويّة الوطنية الأردنية وحاجتها الاستراتيجية لمظلة النظام السياسي. وموقف كهذا, سيؤسس لموالاة منهجية تمثّل رؤية ولا تعكس مصالح فردية أو فئوية. وبغياب هذه الرؤية, نلاحظ ظاهرة انتقال مسؤولين سابقين مغبونين إلى المعارضة, بصورة غير مسؤولة, ديموغوجية, تفتقر إلى الحد الأدنى من التماسك الداخلي. بالمقابل, هناك خاصية تنفرد بها المعارضة الأردنية التقليدية, حيث تتحول معارضة الحكومة أو الحكم أو النظام, إلى معارضة للدولة والكيان والبلد والهوية, علنا أو ضمنا. المعارض الجذري ليس هو الذي يشكك بالحكم والسياسات, بل هو الذي يشكّك بالكيان الوطني نفسه, بالبلد الذي "أنشأته مؤامرة استعمارية"! في جهل كامل بتاريخ البنية الاجتماعية المحلية التي تكوّنت في سياق تاريخي, تغدو قراءته الضرورية نوعا من " الإقليمية" البغيضة! أطرف المسارات في هذا الباب, نجدها عند القوميين التقليديين. فالناصري ليس سوى وطني مصري حتى في عهد السادات ومبارك. يقف ضدهما في السياسة لكنه يظل متعلقا بهوى مصر. والبعثي من الجناح العراقي يتحول إلى وطني عراقي, والبعثي من الجناح السوري يتحول إلى وطني سوري, والليبرالي يغدو أمريكيا يقسم بقبر جورج واشنطن. أشرف الظواهر النضالية الوثيقة الصلة بالتقاليد الأردنية تمثلت بالإنخراط في صفوف المقاومة الفلسطينية. لكن المفارقة هي أن المناضلين الأردنيين في تلك الصفوف يتورطون بالإنشقاق عن الذات. حدث ذلك مع مناضلي المنظمة التقدميين, وهو,اليوم, ينطبق, أيضا, على أنصار حماس الإسلاميين. ألا توجد مقاربة أردنية بلا رتوش للشراكة النضالية الضرورية في الشأن الفلسطيني? ألا يوجد إسلام سياسي يرى الأردن وطنا ومشروعا لا مجرد أرض لله? كل أرض لله.. لكنه يستخلف فيها بشرا في مجتمعات لها مصالح وكينونة وهوية. اليسار الأردني التقليدي توزّع هو الآخر على الولاءات الدولية والعربية. لكنه تميّز, وحده, بولادة يساريين أردنيين يفكرون ويناضلون في حيّز سسيوثقافي وطني, ومن موقع التعبير عن فئات شعبية ليست تجريدات نظرية وإنما تتكون من بشر واقعيين لهم تاريخ وتراث ووجدان وهوية. المفارقة هي أن كل تلك الممارسات السياسية والثقافية تتم في سجال لا علاقة له بالمكان والزمان. المكان برسوخه الاجتماعي التاريخي والزمان المرتبط بقضايا كيان أكّد, مرارا وتكرارا, متانته الاستراتيجية في مواجهة موجات عاتية من رياح الإقتلاع. متانة الأردن الاستراتيجية لا تنبع من قرار دولي حدث وأنه اتجه ضدها عدة مرات, ولا من عبقرية النخب المسيطرة التي طالما وقعت في وهدة الهزيمة والإضطراب أو أنها, بالمقابل, شاركت في تقويض الكيان من داخله. نبعت متانة الأردن الاستراتيجية, دائما, من الإرادة الجمعية لشعب صنع حياته في وعر الجبال وشقاء الصحراء, يد تبذر القمح وأخرى على الزناد, مخضبا كل شبر من الحقول والكروم والمراعي بالدم والعرق والصبر والتحدي. لم يحصل الأردنيون على بلدهم منحة متوارثة, بل انتزعوه من إهمال الإمبراطوريات وسطوتها ومن عنف الصحراء, مطوّعين سلاسل جبالهم القاسية للحياة والتنظيم السياسي المبدع من التحالفات العشائرية التي أسست متحدات الفلاحين المقاتلين, وحيّدت الإختلافات الدينية والإثنية والمناطقية في وطن نتج عن عملية كفاحية ابداعية استغرقت قرونا. لذلك, الأردني لصيق ببلدته وبلده. والأردنيون لا يحبون الهجرة. وإنْ هاجروا, فلا يقطعون صلاتهم الحيوية بالأهل والديرة والبلد, متعاضدون في العمق, لهم رائحة القمح وخجله, لكن لهم أيضا رائحة البارود, يتملكهم الحياء الفلاحي المسالم وسورات الغضب البدوية, عبيد الضيف وفرسان الليل في كيمياء لا يفهما إلا عشّاق الأرض والناس. ومن هؤلاء تتكون النخب الجديدة في الميادين. ووضع الدولة ومواردها وقوانينها وأجهزتها وتسهيلاتها في خدمته. أخذتم الفرصة كاملة " للإستثمار". وجوهر مطالب الشعب الأردني يكمن في استعادة امتلاك الدولة وأملاكها ودورها الإقتصادي والاجتماعي. الليبرالية الإقتصادية والسوق الحرة والخصخصة الخ تتطلب, قبل كل شيء, قبولا سسيوثقافيا بالبناء الطبقي. والأردنيون لا يقبلون ذلك, لا يريدونه, يكرهونه, ولا ينسجم مع تكوينهم السسيوثقافي, ولا يستطيعون التعايش معه إلا مرغمين. وفي العقدين السابقين, تجرّعوا آلام الليبرالية الإقتصادية تحت ضغط الإمتثالية السياسية. وقد فرطت هذه الأخيرة الآن, وأدرك الأردني أن لديه القوة اللازمة لكي يصنع حياته ومصيره. وهو يطرح اليوم مروحة مطالب, أعتقد أنه يمكن نزع تشتتها وفوضاها و تلخيصها, عقلانيا, بصيغة ديمقراطية حديثة من دولة القطاع العام.