الرئيس القاضي



يدخل الأردن ابتداء من اليوم في مرحلة جديدة، بعد أن التقط الملك لحظة تاريخية واستمع إلى نبض الشارع بنوابه وفعالياته وحراكاته، وأقال حكومة الدكتور معروف البخيت، وهو قرار يحتاج إلى حكمة كبيرة، خاصة وأن ثمة من ينصح على الدوام بعدم الاستجابة لما يريد الناس، باعتباره ضعفا لا يليق بصاحب الأمر، وهو موقف معكوس تماما، فالقوي الواثق بشعبه وأهله يستمع لهم، ويستجيب لتطلعاتهم، ويضبط بوصلته وفق دقات قلوبهم..
أعرف أن أي كلمة الآن تمتدح رئيس الوزراء المستقيل ستُأخذ على محمل مفتوح التأويل، ولكنني أريد أن اقولها وأمري إلى الله، فوفق ما أعرف، فقد اجتهد الرجل كثيرا جدا، وحاول أن يفعل شيئا بكل ما يستطيع، لخير هذا الشعب، ولكن السياقات التي أحاطت به جعلته يبدو وكأنه لم يفعل شيئا، رغم أن هذا الأمر ليس بالحقيقي، وحق علينا أن نقول له أنك اجتهدت في خدمة أبناء شعبك، ونكل تقييم ما حاولت فعله إلى الله، فهو جلت قدرته الأخبر بعباده!.
أما الرئيس الجديد، فنستبشر خيرا به لأكثر من سبب، أهمها على الإطلاق أنه قاض مشهود له بالمهنية، ولو لم يكن كذلك، لما انتخب قاضيا في محكمة العدل الدولية في لاهاي، وهو منصب يقوم على الاحتراف والخبرة لا على الواسطة وتزكية المعارف، ومعنى أن يتبوأ منصب رئاسة الحكومة قاض محترف أنه سيتحرى العدل على نحو صارم فيما يتخذه من قرارات، خاصة وأن كل ما يقال الآن من مؤاخذات شعبية تتعلق بالفساد والمحاباة وهو أمر لا يتعايش مع العدل والإنصاف، اللذين هما من أخص خصوصيات القاضي!.
وإلى ذلك، بلغنا مما قاله الرئيس المكلف أنه طالب بصلاحيات كاملة، وهذا ليس مطلبا للرئيس فحسب، بل هو مطلب شعبي عام، وفق ما ينص الدستور من فصل بين السلطات، وممارسة كل جهة لاختصاصها فيما هو مكلفة بها، قانونا ودستورا، بلا تغول جهة على أخرى، وهي مشكلة مزمنة في الأردن، زلزلت اقتصاده وسببت له مشكلات لا حصر لها بسبب تعدد المرجعيات، وغياب «المطبخ الوطني» الذي يعكف على طبخ القرارات الوطنية الكبرى، على نار هادئة!.
تعيين الرئيس عون خصاونة في هذا المنصب سيبعث هدوءا في الشارع الأردني، وارتياحا ما، لكن هذا الهدوء والارتياح لن يدوما ما لم يلمس الناس العاديون أن ثمة تغيرا حقيقيا في نهج وأسلوب العمل، لا تغييرا في الوجوه، وما يقال هنا عن الرئيس يقال عن الطاقم الوزاري، فالبلد بحاجة لخبرات وكفاءات وأيد جديدة نظيفة، يتفق عليها الغالبية لا الجميع، فالناس لا تُجمع على أحد، ولكن ثمة شروطا لا بد أن تتوفر فيمن يحمل حقيبة الوزارة، وهو تحد كبير أمام الرئيس المكلف، ليس لفقر في الكفاءات الأردنية، بل لأن المنصب الرسمي تآكل واستنزف على نحو مريع، ومن الصعب أن تقنع المواطن الأردني بمصداقية مسؤول ما قبل أن يرى منجزا على الأرض، يلمسه بيديه ويراه بعينيه!.
وفي هذا المقام، ندعو حراكات التغيير والإصلاح إلى إعطاء الرئيس فرصة للعمل، ومن ثم الحكم على الأداء، وعدم إرباك الحكومة والدولة بكثرة الاحتجاجات والاعتصامات، ولا يفهمن احد كلامي بشكل خاطىء، فالربيع الذي أزهر في الأردن، ننتظر إيناع زهوره ثمارا دانية، ولكننا ندعو صراحة إلى تفهم رياح التغيير، وانتظار ما ستسفر عنه، وعدم التسرع في الحكم على شيء قبل التيقن من صحة هذا الحكم!.
ندعو الله من اعماقنا أن يجنب بلدنا كل شر، وييسر للرئيس من يصدقه القول، ويوفقه في اختيار فريق متجانس وكفء، ونبارك للرئيس بالمنصب بقدر ما نسأل الله أن يعينه على حمل الأمانة!.