هل هو احتضار الصحافة الورقية؟


الكل يصرخ ويستغيث وما من مجيب!!

في أكثر من دولة عربية يطلق أصحاب الصحف الورقية نداءات استغاثة متكررة ذلك أن توقف هذه الصحف عن الصدور بسبب تفشي فيروس «كورونا» وما فرضه من بقاء في البيوت وإغلاق للفضاءات العامة جعل مصير هذه الصحف على كف عفريت. وسواء تعلق الأمر بالدول التي تقرر فيها وقف طباعة وتوزيع الصحف وتحّولها وجوبا إلى النسخة الرقمية مثل المغرب وتونس وقطر والأردن وكثير غيرها أو تلك التي تواصل فيها الصدور على نطاق أضيق من السابق مثل مصر، فإن الشكوى مشتركة وطلب النجدة من الحكومة واحد

صحيح أنه طوال السنوات الماضية ظل الكثير يروّج إلى أن الصحافة الورقية سائرة حتما نحو الاختفاء بسبب تراجع الإقبال والإعلانات لصالح الإعلام الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي ولكن أغلبها ظل صامدا، رافضا للاستسلام حتى وإن بات بالكاد يغطي نفقاته. الجديد أن ما تسبب فيه الوباء من خسائر لكل الأنشطة الاقتصادية، كبيرها وصغيرها، بدا وكأنه جاء ليدفع هذه الصحافة للجب الذي ظلت تفر من الوقوع المميت فيه

الصحيح كذلك، أن بعض الصحف العربية الكبرى والعريقة مثل «الحياة» اللندنية و«السفير» اللبنانية سارت برجليها إلى هذا المصير ولكن ليس أكيدا أن الكل يرغب في مصير مماثل، ولهذا فالكل الآن متشبث بالنجاة ولو تمسك بقشة

اختفت الصحف المعروضة في الأكشاك العصرية كما اختفت تلك المعروضة في «بسطات» الأرصفة، كما غابت صيحات باعتها المتجولين في الشوارع وعند إشارات المرور ومحطات القطارات، لكن الأمل ما زال معقودا على أن ذلك لن يكون بالضرورة المشهد النهائي الذي سيسدل عليه الستار. ولهذا يسارع الجميع الآن لمطالبة الحكومات بضرورة التدخل لإنقاذ هذا القطاع الإعلامي الهام وعدم تركه يموت تحت ناظريها دون أن تحرك ساكنا

في الأردن مثلا، طالبت نقابة الصحافيين الحكومة بــ«دعم عاجـــــل» لقطاع قالت إنه «غير قادر على علاج الأزمة الحالية بمفرده»، أما في تونس فقد تعددت المقالات التي تدعو الحكومة إلى الالتفات إلى أزمة الصحف التي باتت تخشى الاندثار مع أنها «دعامة هامة للديمقراطية في البلاد» على حد وصف البعض

كثير من الأمور ستتغير بالتأكيد بعد انجلاء هذه الأزمة، ولو بعد أشهر، لكن من الصعب جدا أن نتخيل صباحا بدون صحف فهو كصباح بدون رائحة القهوة

في مصر، تداعى رؤساء تحرير الصحف إلى اجتماع ينظر في ما آلت إليه الأمور بعد التراجع الشديد في الإعلانات والتوزيع ذلك أن الصحف لم تتوقف هناك عن الصدور وإنما قلصت سحبها وبات عدد منها يشترك في التوزيع وفي توصيلها إلى البيوت. ومما قاله عبد المحسن سلامة رئيس مجلس إدارة «الأهرام» أنه بعد تراجع الإعلانات بما نسبته 75٪ وتقلص السحب فإنه لن يطلب من الحكومة «سوى أن تقف معنا لأربعة أشهر» حتى يتم تجاوز الأزمة، فيما دعا عماد الدين حسين رئيس تحرير «الشروق» اليومية الدولة إلى النظر إليهم «بعين العطف والاهتمام» أسوة بقطاعات الاقتصاد الأخرى المتأثرة. في قطر، لم تصدر من الصحف دعوات من هذا القبيل رغم أن ما حلّ بها ليس بالقليل فقد قاد التحوّل إلى النسخة الرقمية بعضها إلى الاستغناء عن عديد الموظفين والصحافيين من أبناء البلد وغيرهم على حد سواء وكذلك تخفيض الرواتب مع ما يطرحه ذلك من إشكالات مضاعفة لمن يريد العودة إلى بلاده لكنه لا يستطيع مع توقف حركة الطيران، ولاشك أن أغلب الصحف الخليجية يعاني حاليا وضعا مماثلا

لم يصدر من معظم الحكومات بعد ما يفيد التجاوب مع هذه الدعوات الملحة للنجدة وقد تكون معذورة لأنها تحارب على أكثر من جبهة وكل قطاع متضرر يرى أن على الدولة أن تقف معه وتساعده وهو أمر من الصعب تلبيته للجميع في نفس الوقت. ما يميّز وضع الصحف عن بقية القطاعات ربما هو وعيها أنها ذات أهمية خاصة لأغلب الدول العربية فهي المروّج لسياساتها والمدافع عنها في وجه منتقديها في الداخل والخارج، ولهذا فهي ترى نفسها جهة «أولى بالرعاية» ولكن قد لا تكون هذه هي وجهة نظر السلطة التي قد تتريث في دعمها انتظارا لما ستؤول إليه الأمور فهناك ما هو أكثر إلحاحا معتقدة أن بإمكان الصحف أن تتدبّر أمرها حتى ذلك الحين لكن ذلك ليس مضمونا

لا شك أن ما تعانيه الصحف حاليا ليس وليد هذه اللحظة بل إن هذه الأزمة الحالية لم تأت إلا لتفاقمها وتقرّب ساعة مواجهة الحقيقة التي تأجلت عديد المرات بسبب حب العاملين فيها والحنين الدائم للناس، من فئة عمرية معينة أغلبها ليست من الشباب، للورق يقلبونه كما يشاؤون مع عبق الحبر الجميل

كثير من الأمور ستتغير بالتأكيد بعد انجلاء هذه الأزمة، ولو بعد أشهر، لكن من الصعب جدا أن نتخيل صباحا بدون صحف فهو كصباح بدون رائحة القهوة. وكما قال راسموس كلايس مدير معهد «رويترز» عن التحوّلات الكبرى التي فرضها «كورونا» على المشهد الإعلامي فإن «بعض وسائل الإعلام ستخرج منهكة من هذه الأزمة، والبعض الآخر قد لا يخرج منها أبدا، والآخر قد تتعزز (ربما) مكانته»