في الأردن.. ثورة بلا ثوار

ليس دائما تعني الثورة انقلابا سياسيا على الحكومات والأنظمة، لكنها دائما تعني أنها التغيير في البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتى الفكرية، وليس ثمة ما يقيد حدود الثورة بمفهوم الإنقلابية، إلا في الحالة التي تفرض هذا المستوى المتقدم من التثوير كما حصل في مصر وتونس وليبيا ويحصل تقريبا في سورية، أما في الحالة الأردنية، فالثورة في سياقها العام أدخلتها الأجهزة الرسمية بقدرة فائقة في المسكوت عنه أو المحرمات والمستحيلات لاعتبارات جغرافية وديموغرافية، قبل أن تكون سياسية، وهؤلاء الذين يرتادون المساحات المفتوحة أمام المساجد في أيام الجمعات هم أكثر من متظاهرين وأقل من ثوار..
يعني هذا أن حجم التعبئة الشعبية الأردنية ضد الفساد الرسمي والمفسدين الحكوميين أولا، تعادل مستوى الثورة، والانفعال الأمني المدني ـ أو ما يسمى البلطجة - المضاد مستفز للحد الذي يعمل على زيادة حدة التثوير في المجال الشعبي الحامل للثورة بمعناها التغييري للبنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
في الأردن ثورة، لكن بلا ثوار، والمعنى الصريح أن الأردنيين يتنفسون زفيرا مستعادا، حتى لو قفزوا عن حاجز الخطوط الحمراء، وهتفوا بكلمات أبعد من المعتاد، فإنهم ما زالوا بلا راية، وفائض الهتافات تمتصه المساحات الفارغة بين حراك وحراك أو بين حزب وحزب، أو بين واقعي يسير على الأرض، وافتراضي الكتروني يتسلل عبر الأسلاك باسم مستعار وصوت مستعار، ولغة مستعارة، ولعل هذا توصيفا إمبريقيا للحالة في الأردن، لأننا باختصار نستطيع أن نختبر ما يحدث بالحواس الخمس.
ليس ثمة معنى واحدا للإصرار على بقاء البخيت رئيسا للوزراء، في مقابل أصرار كل الأطياف الشعبية على أن يغادر مكانه غير مأسوف على عهده، ولكنها معاني متعددة، ليس أولها التقليل من شأن كل الحراكات، والضرب بعرض الحائط بمضامينها واعتبار حمولاتها زائدة، وليس آخرها أن الحكومة الأردنية تريد أن توصل رسالة واضحة أن كل هذه الفعاليات ما هي إلا انفعالات ستذوب تدريجيا كلما تم تجاهلها، وهي سياسة حكومية أردنية بامتياز، تكرست سنين طويلة من جراء أن الأردنيين مفطورون سياسيا على الخوف الشديد من ثنائيات أرهقتهم وأثقلت كاهلهم بأحمال ثقيلة من الفساد وأعباء كبيرة من الفقر وسرقة المال العام، وتغول السلطة التنفيذية على الرقابية والتشريعية، وفوق هذا كله صمت الملك الذي يتاوله الحكوميون والرسمين بأنه غطاء لهم وشرعية لممارساتهم.
حالة الاحتقان والغليان في الشارع الأردني، وما يقابلها من اضطراب في الاداء الحكومي تنامت باستمرار، وما بين شعاري (الخبز) و (الكرامة) مسافة خصبة لتثوير المجال الشعبي الداخلي بأكثر مما هو عليه اليوم، بعد أن سكت الشعب الأردني زمنا طويلا على فقرهم، فإنه قد بدا لهم أن لا مجال للسكوت على كرامتهم التي ينال منها سرّاق الدولة وشذاذا آفاقها، وحين لا يكون للدولة سلاح غير سلاح البلطجية والزعران المستأجرون أمنيا، فإنه لا يكون أمام هذه الحراكات إلا أن تتحول إلى حالة واحدة، ولا يكون أمام الناس في شوارعهم وخيام اعتصاماتهم إلا أن يتحولوا إلى ثوار في ثورة نصرُّ على أن نبقيها ثورة بيضاء، لا يلطخها (الأحمر)، لأننا نريد أن لا تصل إلى هذا الخط الأحمر ـ خط الدم ـ حتى وإن حفزت حجارة البلطجية هذا اللون في خيم الاعتصامات والمسيرات ووقفات الاحتجاج.. لكن بقاء الأسلوب الحكومي بهذه النمطية المستفزة، والمثوِّرة للمجال الشعبي يفقد الجميع القدرة على البقاء في المنطقة البيضاء أو الرمادية بين اللونين.
حين كتبت مقالا حول أن الحل بيد الملك ويبدأ منه، سألني أحد الأصدقاء (لماذا تصرون دائما على العودة للملك وهو يمارس صمتا مخيفا حول ما تحدثه أجهزة الددولة في الدولة )، قلت حينها أننا بين خيارين، أن نعود للملك، أو أن نتقدم أمام خط الدم.. والناس ما زالت تحاول أن تختصر خياراتها بخيار معلق في لوحة ترسم واقع حال الدولة، بلا إطار حكومي لا يثق الناس به.
الفرصة في الأردن برأسين، فرصة للإصلاح الذي نعرف أن له تكاليف باهظة سيدفعها الكثيرون، وفرصة أخرى للثورة التي تحاول أن تستكمل أسبابها، ولها تكاليف باهظة أكثر، سيكون الجميع فيها خاسر، والاختيار بين هاتين الفرصتين هو للملك وحده، لأن الحكوميين والشعب طرفا معادلة صعبة لا ينتج تفاعلاتها إلا الملك، فليس ثمة مشكلة أكبر مما قد يحدث في الأردن لتستوجب غير الصمت.