على خط النار

في الوقت الذي يتذمر فيه الكثيرون من طول فترة مكوثهم في بيوتهم، بسبب الحظر الذي يفرضه عليهم وباء كورونا، يتبدى لنا في ذات المشهد أيضاً، الآلاف من أصحاب المعاطف البيضاء، الذين ينتشرون على امتداد رقعة العالم، ويواجهون خطر الإصابة بهذا الفيروس، أثناء تأديتهم واجبهم الإنساني والطبي، وهم يُحاربون على مدار الساعة لإنقاذ حياة آلاف من المصابين، تاركين خلفهم زوجات وأبناء وآباء قلقين.
نطالع صورهم، على شاشات التلفزة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وقد أنهكهم التعب، وآثار معدات الحماية الشخصية غائرة في وجوههم، وعلامات الإعياء الجسدي والنفسي بادية في نظراتهم التي يختلط فيها الألم بالحزن، وربما الشعور بالعجز في مواجهة الوباء. وتجدهم يسرقون من كل هذا الجنون ولو مجرد لحظات لسند ظهورهم إلى أول جدار يصادفونه، او الجلوس في ممرات المستشفى، أو رمي أجسادهم أينما تيسر ليحظوا بقليل من الراحة.
وتؤكد الأرقام التي تصلنا من الصين إصابة حوالي ثلاثة آلاف عامل في الرعاية الصحية ووفاة 22 منهم، وتؤكد ذلك الأرقام الموثقة من إيطاليا حيث سجلت أكثر من عشرة آلاف إصابة، نتج عنها أكثر من مائة وفاة بين الأطباء وحدهم، ناهيك عن آلاف الاصابات بين عائلات مقدمي الرعاية الطبية، مما دفع بالعديد منهم إلى الإقامة خارج البيت: سواء في المستشفيات أو في مواقف السيارات أو حتى التخييم أمام منازلهم.
كما تشير المعلومات التي تتناهى إلينا تباعاً من بعض البلدان التي تفشى فيها الوباء، إلى أن حوالي 50 % من العاملين في المستشفيات أصبحوا خارج الخدمة إما بسبب الإصابة بالفيروس أو لمخالطة مصابين أو لعنايتهم بأحد أفراد العائلة المصابين، مما دفع بعض الدول الى الإستعانة بطلاب الطب، وطواقم التمريض لسد العجز، وحتى تخريجهم مُبكراً، وهذا الأمر يعيد إلى الذاكرة، مشاهد تاريخية لكثير من الدول التي لجأت إلى تجنيد صغار السن في الحروب لسد العجز في ساحة المعركة، والذي تخلفه الأعداد الكبيرة للقتلى والجرحى. وبالرغم من الثمن الباهظ الذي يدفعه هؤلاء المحاربون في المستشفيات، في كل دول العالم، فإن لا أحد يستطيع التنبؤ بالآثار السلبية التي ستحفرها هذه التجربة في أنفسهم وأرواحهم.
فقد ذكرت إحدى الدراسات أن حوالي 70 % من الأطباء والممرضين الصينيين الذين عملوا في الخطوط الأمامية في مدينة هوبي يعانون من إجهاد شديد، وأن نصفهم يعانون من الاكتئاب، في حين تم تسجيل عدد من حالات الانتحار بين العاملين الصحيين في أكثر من دولة، كما علمتنا تجربة ايبولا العام 2014 أن كثيرا من العاملين الصحيين تخلوا عن المهنة بعد أن مروا بالتجربة.
ومما يفاقم في حجم الكارثة، أن هؤلاء "الجنود” لم يتهيأوا لخوض غمار معركة غير مُتكافئة، ودون غطاء كاف من الأسلحة الأخرى، والمتمثل في النقص الحاد الذي تُعاني منه المستشفيات في توفير الأساسيات من وسائل الوقاية، والتي أصبحت الآن السلعة الأكثر ندرة في العالم، والتي تتقاتل عليها الدول.
مشهد مهيب ذاك الذي تناقلته وسائل الإعلام لتكريم الأطباء والعاملين في المجال الصحي في إحدى المدن الصينية بعد رفع الحظر عنها، لكن ذاكرة الشعوب قصيرة العمر، فغداً سيعود كُلٌ الى همومه اليومية، وقد لا يبقى في وجداننا عن هؤلاء الذين ضحوا بأنفسهم من أجل سلامة الآخرين، خلال المحنة، إلا تمثالاً للجندي المجهول، نتذكرُهُ بباقة ورد مرة في السنة.