أين العقول الكبيرة?

لنأخذ أحداث يوم السبت الماضي كشريحة للحالة الاردنية الراهنة. التصدي لمهرجان خطابي للمعارضة في ساحة مفتوحة بسلحوب بحضور رئيس وزراء اسبق هو احمد عبيدات, والنتيجة تكسير رؤوس وتحطيم سيارات. وفي عمان, في قصر الثقافة, وخلال حفل إشهار تجمع اربعة احزاب تحت اسم الجبهة الوطنية للانقاذ برئاسة وزير سابق امجد المجالي تنبري جماعة من الحضور بالتصدي للشيخ حمزة منصور الذي كان مدعوا كضيف, فتحدث جلبة بسيطة كادت ان تكون مشروع شجار في مكان مغلق.

فإذا كانت الدولة والحكومة واجهزتها الأمنية عاجزة عن حماية مهرجان يحضره عشرات من المعارضة يمثلون تجمعا لابناء عشائر, وعاجزة عن توفير الاجواء المريحة لتجمع حزبي من احزاب الوسط, الاول في سلحوب والثاني في عمان. فهل بقي أحد في هذا البلد الطيب سيصدق بأن اهداف الدولة الاصلاحية هي انشاء تعددية حزبية توصل انصار احمد عبيدات وحمزة منصور الى البرلمان كي يشاركوا في الحكومات.

أي احزاب تريد الدولة! اذا كان الاخوان المسلمون غير مقبولين ويجري "شيطنتهم" سياسياً واذا كانت شخصيات البلد التي لم تعرف خدمة خارج اطار الدولة, مثل احمد عبيدات, ينظر اليها بأنها "مثيرة شغب". واذا كانت مشاريع تجمعات لاحزاب الوسط يقودها وزراء ورجال دولة سابقون مثل امجد المجالي, لا تحظى بأي ضمانة أمنية لكي تعمل من دون مشاغبات ومقاطعات فهل بقي في هذا البلد الطيب من سيصدق بأن اجهزة الدولة ستكون ضامنة لمعركة ديمقراطية حقيقية في المحطات الانتخابية المقبلة, سواء كانت البلدية أم النيابية, ما دام "كار البلطجية" قد انتقل الى البلاد فيما لا تقدم الحكومة واجهزتها اي تبرير غير القول: ماذا سنعمل, نحن لسنا طرفا "ناس بدهاش مؤتمرات ومسيرات واحزاب"! فأي مستقبل ل¯ تعديلات دستورية وقانون انتخاب بقوائم وطن اذا لم يجد حمزة منصور واحمد عبيدات الامان لالقاء كلمة في عمان او في سلحوب?!

يا سلام .. أبهذا المنطق سيتم الانتقال بالبلد من حال الى حال!! أبهذه الامثلة المعاشة التي تناقض ألف باء الحريات العامة يريد ان يفهمنا هؤلاء القيّمون على مسيرة الاصلاح بأن الطريق اليه آمنة وسالكة من دون مشاكل ومواجهات, ان انكفاء الدولة عن دورها في حفظ الحريات العامة هو سواء بسواء, مثل الاستخفاف بهيبة الدولة في الشوارع والتجمعات.

أعود الى احداث السبت الماضي وما قبلها من ايام الاسبوع الفائت, عن ما جرى في الربة والكرك واربد وعجلون والاغوار وطريق المطار من قطع للطرق وحرق للاطارات وحمل للسلاح, في مواجهات بعضها مع الحكومة, وبعضها بعضا, في ثارات وتنافس للفوز ببلدية لكل مواطن! ثم بعد ذلك نسمع من يردد ان في البلد حمايل وعشائر واعرافا وتقاليد. فأين هذا كله, اذا كانت العشائر لا تطيق التجاور مع بعضها في كراسي بلدية?

أشعر مثل غيري من الاردنيين, بارتفاع منسوب القلق والخوف. وكأن البلد فرغت من العقول الكبيرة, التي تشيع الكلام الطيب بين الناس, وتهدئ قلوبهم وعقولهم. فالتمزق العشائري لا يصنع شعبا ولا مجتمعا.

البلد بحاجة الى العقول الكبيرة في كل موقع ومحافظة ومدينة, وفي صفوف كل عشيرة او عائلة. فلا نترك لمشاعرنا وانفعالاتنا ان تقودنا الى ما لا يُحمد عقباه. ولنعلم جميعا أن تفرد المجتمع الاردني بالصبغة العشائرية لم يكن يوما سببا لتخلف او انقسامات او لجوء للعنف. فاذا كانت العشائر وعاداتها وقيمها لا تحفظ مكونات المجتمع وكياناته وبالتالي مكونات الدولة وكياناتها فسنكون امام عشائرية دخيلة طارئة "لا تعرف لها راس من ساس" وهذا عين الفوضى.

كما ان الدولة الاردنية لم تكن في نظر شعبها يوما من الايام إلا الحضن الدافئ والعقل القويم الراجح الذي احتوى اخطر الازمات الداخلية التي مر بها الاردن, حتى اولئك الذين تآمروا على النظام. فالجميع ابناؤه, وهذا سر امثولة الامن والاستقرار الاردني التي لا نريد ان تشوهها العقلية الامنية التي لا تحتمل صوتا معارضا, ولا الانقسامات العشائرية التي لسان حالها يقول "بدي حقي وليذهب الآخرون الى الجحيم", وكأننا نتنكر لوطن لا يكون إلا بوحدتنا.

taher.odwan@alarabalyawm.net