في ضيافة كورونا


أمور شتى ستتغيّر في الكائن البشري، بعد العودة إلى الذات التي كان بعيدا عنها، بعِلّة الحياة المعاصرة، والتلهّف لتحقيق الغايات والمقاصد التي حصرها في التفكير في الطرق الكفيلة للغنى والثراء، معتقدا أنّ خلوده دائم، وهذا الوضع فرضه سياق عولمة لا تعرف في قاموسها سوى الربح وما دون ذلك لا يساوي شيئا، فهيمن على حياة الناس الانهمام بالكماليات، والعناية المفرطة بالمظاهر الخادعة، والإفراط في الاستهلاك الكاشف عن الميول إلى تلبية الرغبات الزائلة، وتغييب ما يحقّق للإنسان آدميته، فأصبح رهين السوق، خاضعا للعرض والطلب، فتحوّل بقدرة قادر إلى سلعة، بدون الشعور بذلك، بل يعيش وهم الهباء، والعدمية المفرطة في جحود الأمور المهمّة، والأساس، فسقط الإنسان في فخاخ الاستلاب المزدوج، استلاب الذات واستلاب الهوية واستلاب الكينونة، فهذا الثالوث الذي يشكل جدارة الكائن البشري، تعرّضت لأكبر عملية تشويه، من إعلام موجّه، يعمل ما في جهده لتكريس التفاهة، وترسيخ قيم متنافية مع حقيقة وجوهر وجود هذا الإنسان على هذه الأرض، وذيوع ثقافة بل قيم الضحالة، واللعب على الأهواء من خلال أساليب التضليل والمغالطة، فكان الضحية الأولى هو الإنسان

في هذا التيه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي، وجد المرء ذاته مغلولة، لا إرادة لها، لا أفق رؤية واضحة للذات والعالم، لا قيم نبيلة تكون الرابط بين الشعوب والدول، لا ثقافة عقلانية يمُكنها إنقاذ البشرية من طوفان عولماتي كاسح، سيجرف الكل، بل يمكن تسمية هذا الوضع بالفراغ الوجودي، نظرا لما يعيشه هذا الإنسان من تخبط، وتسييج تفكيره ورغباته وأهوائه في الزائل، وتهميش الجوهر فيه، وضياع يعلن عن إفلاس الإنسان، رغم الهالة التي يحيط بها نفسه، والمتمثلة في الثورة المعلوماتية، التي لم تزد الوضع إلا تشرذما وتفككا واختلالا، في كل شيء، فالجشع الذي تملّك الدول العظمى، باسم فرض سياسة الأمر الواقع، واستنزاف الثروة الطبيعية، والقضاء على معالم الحياة على الكرة الأرضية بفعل التسابق المحموم حول امتلاك القوة النووية، وإشعال الحروب والنزاعات والصراعات، خير شاهد على الجنون الذي أصاب المتحكمين في رقاب الدول المغلوبة على أمرها، فازداد الشطط في انتهاك الحقوق، والدوس على القيم الإنسانية، والسعي إلى تغيير خرائط العالم، حسب هوى القوى العالمية، فكانت النتيجة الانهيارات الاقتصادية، التي شهدتها بداية الألفية الثالثة، والأيام السوداء التي اجتاحت المعمورة، وما أصاب الغلاف الجوي من ثقوب وتغيّرات لم تزد قوى الشّرّ إلا التمادي في القضاء على ما ينبغي الحفاظ عليه، والذي يشكّل أكسجين الوجود

ما وقع يدعو الإنسان إلى إعادة النظر في العديد من الممارسات اللامعقولة المنافية للعقل والطبيعة، بالتفكير مليّا في العودة إلى الجوهر في الإنسان، والتعمّق في الوجود والموجودات برؤية تنتصر للمبادئ الإنسانية، التي تعيد للكائن قيمته ودوره في الحياة

غير أن كورونا كوفيد 19 سيكون بمثابة الصعقة الكهربائية، التي تربك كل الحسابات، والاستراتيجيات الموضوعة على طاولات المفاوضات والمناورات، بين الدول السبع العظمى في غرفة العمليات، وتثير الكثير من الأسئلة حول مصير الإنسان على هذه البسيطة، لأن هذا الوباء البلاء، لم يقتصر على دولة دون أخرى، بل اجتاح العالم كلّه، أصاب الحكام قبل المحكومين، وخلخل الموازين، وانقلب السحر على السحرة. فبدأت سوأة الدول التي كانت تتباهى بقوتها الاقتصادية والعسكرية والعلمية والتكنولوجية والرقمية الذكية، من خلال وقوفها عاجزة، والأكثر من ذلك مستسلمة لهذا القضاء، الذي حلّ ودخل الإنسان فاستوطن القلوب، وبدأ يحصد الأرواح، ويستفحل بين الناس، فوجد الإنسانية وجها لوجه أمام فيروس لا يستأذن، وإنما يقتحم بشكل غريب ومريب، فطرحت الأسئلة واختلف الناس حول كورونا، هل من فعل فاعل بشري، أم ثمة أمر ما فيه الكثير من الالتباس والغموض؟

تحوّل العالم كله إلى سجن كبير، الناس سجناء في منازلهم، مطوقين بالرعب والخوف، وفوبيا المشاعر المتضاربة، الكاشفة عن ضآلة الإنسان وقزميته أمام فيروس لا يرى، مجهول الهوية، فتعطل كل شيء، واستسلمت الكرة الأرضية لراحة بيولوجية لم تكن تحلم بها منذ قرون

العالم يعيش حالة فراغ مهولة، الشّلل الناطق الصريح بما آلت إليه البشرية، من أوضاع مزرية ومحبطة في الآن ذاته، فمعالم الحياة غدت مفتقدة في كل بقاع المعمورة، فتوقف عجلة الحركة والحيوية على الأرض، وبدت دول تغالب فشلها في تطويق الوباء والكف من خطورته الفتّاكة، والهدّامة لاقتصاديات كافة الدول. وبالتالي ألا يمكن اعتبار وباء كورونا ناقوس خطر على العلاقات الدولية، يتمّ التخطيط من لدن مؤسسات اقتصادية بلبوسات دينية متطرفة، لتشكيل العالم من جديد وفق مصالح معينة؟ ثم أليس ما يروّج له عبر نشر التحقيقات وبث برامج في وسائل الإعلام، تسهم في تهويل خطورة الفيروس، يندرج ضمن المخطط الموما إليه أعلاه؟ أتمنى أن تكون هذه التكهنات مجرد أسئلة لإضاءة الغامض. لكن في المقابل قدّم هذا الوباء درسا عظيما جليلا، لا يمكن نكرانه للإنسان، يتمثل في عودة الإنسان إلى رشده، وإلى طبيعته الأولى، بإعادة الدفء المفتقد في العلاقات الإنسانية قاطبة، والأسرية خاصة، حيث أن هذا الكائن الذي كان مسلوب الإرادة، غارقا في الفساد والظلم والاستبداد، والصراع من أجل البقاء، والرغبة في الغنى الفاحش، اليوم وجد ذاته في مواجهة ذاتها، ليكتشف الجنون الذي بلغته الإنسانية. ولابد من القول إن تحالفات جديدة ستتشكّل بعد تجاوز هذه الجائحة، بعد انهيارات محتملة في الاتحاد الأوروبي، وتراجع الولايات المتحدة الفظيع، وقيادة الصين للعالم، وفق معايير جديدة، واستراتيجية سياسية تتماشى مع ما ستأتي به تلك التحالفات. كما يجب أن يشمل التغيير الدول المتخلفة، ومنها العربية، بسنّ سياسة جديدة لبناء الإنسان

إن ما وقع يدعو الإنسان إلى إعادة النظر في العديد من الممارسات اللامعقولة المنافية للعقل والطبيعة، بالتفكير مليّا في العودة إلى الجوهر في الإنسان، والتعمّق في الوجود والموجودات برؤية تنتصر للمبادئ الإنسانية، التي تعيد للكائن قيمته ودوره في الحياة، كعنصر فعّال ومنتج، ومساهم في بناء الحضارة. بإشاعة القيم الإنسانية وزرعها في العقول، بدل السعي إلى ملء البطون، فالعقل الذي لا يفكّر يكفّر. وبه تستطيع البشرية مقاومة الابتذال، الذي أصبح ميسم عولمة مخرّبة ومهدّمة، ومهدّدة الإنسان والعالم بالخراب والفناء، وللخروج من هذا الوضع لابد للإنسانية أن تعيد الاعتبار لأسس الأمن العالمي، بالابتعاد عن كل أشكال الحروب، سواء العسكرية أو النووية أو البيولوجية، التي تعدّ من الأسباب الكامنة وراء ما يعانيه ويكابده العالم، في هذه اللحظة الحاسمة، وإيلاء الأهمية لقطاع التربية والتعليم، كخلاص من واقع الخرافة والتديّن المتطرّف والجهل والأمية، فعن طريق العلم والمعرفة، تستطيع البشرية القضاء على جلّ الظواهر المشينة، والمتناقضة، مع طبيعة الوجود، ثم ضرورة الاهتمام بالبحث العلمي، الذي يخدم الإنسانية، ويسهم في الرقي والتطور والازدهار. فبالعلم سيتم إنقاذ البشرية من مخاطر الأمراض والأوبئة

إن الإنسانية، اليوم، أمام جنوح وباء كورونا كوفي19، تقف على شفا الانهيار، إذا تمادت في التهوّر والاستخفاف بمصير الإنسان، وعدم الانتباه إلى ناقوس الخطر الذي دقّه هذا الفيروس، منذرا ومبشّرا بأفق ارتكاسة حضارية ستقود العالم إلى الزوال، لا قدّر الله، فالخلاص والنهاية بيد الإنسان. وليس للعالم إلا العودة إلى رشده وعقلانيته، إلى القيم التي تعرّضت لأكبر حرب بغية تسفيه الإنسان، وتحويله إلى بضاعة، تخضع لرحمة السوق

فلا مفرّ من اختيار الطريق الأقوم، الذي سيكون منقذ الإنسانية من ضلالها العولماتي، المتسلط على الرقاب كسيف ديموقليدس، وسرير بروكست الذي يقوّض كل أمل في تجاوز هذه المحنة

٭ شاعر من المغرب