في زمن كورونا... حكايات من الانتفاضة الأولى


بلغ عدد شهداء الانتفاضة الأولى (1987- 1993)، 1300 شهيد، من بينهم 299 طفلاً، و130 ألف جريح أو ما يعادل 6٪ من عدد السكان، على أيدي الجيش وفرق الموت الصهيونية، و160 ألف أسير ومعتقل، من بينهم 18 ألفًا دون محاكمات (من ستة أشهر إلى سنة) قابلة للتجديد؛ لكن الشعب الفلسطيني استطاع أن يبني خلالها مؤسساته التي سيَّرت أمور حياته تعليميًا وزراعيًا وطبيًا وقانونيًّا رغم ظروف حظر التجوال الدامية.. هنا ثلاث حكايات من زمن الانتفاضة:

حكاية أولى:

أثناء حظر التجوال، يتنقل أعضاء اللجان الشعبية بين البيوت، يطلبون من الناس أن يخبروهم عن الأشياء التي تنقصهم، وبخاصة الأغذية، وفي كلّ مرّة يفاجأ أعضاء هذه اللجان بأن الجواب: لا ينقصنا شيء! إلى أن اكتشفوا أن الناس يخجلون

لم تعد اللجان الشعبية تُصدّق الإجابة الوحيدة المُلصقة على ألسِنة الجميع؛ أصبحوا يُلحُّون

كان الجيران يستعيرون من جيرانهم، خبزًا، أو شايًا، أو حتى علبة كبريت، أو بعض عيدانها، أو عودًا واحدًا أحيانًا، وكل ذلك أمرٌ طبيعي، لكن حين تأتي المساعدة من خارج الحارة، فذلك يعني أنهم محتاجون، وأن هناك من يتصدّق عليهم. هذا ما كانوا يرفضونه

كاترين، الأرملة، خشيت أن يعتقدوا أنها بخيلة، حين سألوها عمّا إذا كان لديها خبز زائد، حتى يتبرعوا به لجاراتها، قالت: جئتم في وقتكم، اليوم عجنتُ وخبزتُ! دخلتْ، وبعد لحظات عادت تحمل ربطة خبز

عندما رأتهم يطرُقون باب جارتها، أغلقتْ بابها واختبأت

خرجت الجارة، ناولوها ربطة الخبز. كانت تعرف تلك الرّبطة تمامًا

أحلّفكم، ألم تأخذوها من جارتي؟

كيف عرفتِ؟

لأنها منذ ربع ساعة فقط، جاءت وأخذتها من عندي لأنها في حاجة إليها، ما الذي قالته لكم؟

قالت إنها عجنتْ وخبزتْ هذا الصباح

بدأت المرأة تبكي

حكاية ثانية:

كلّ لتر حليب كان يمكن أن يكلّف أحد الشباب حياته، لكن الحليب لم ينقطع، بعد مقاطعتهم للبضائع الإسرائيلية عاهد الشباب أنفسهم أن لا يكون نقص الحليب هو السبب في بكاء أيّ طفل

لم يكن صعبًا على الجيش الصهيوني أن يكتشف ذلك

قرر الحاكم العسكري أن ينزل إلى الشوارع ليرى ما يحدث على الأرض. في الرابعة فجرًا تحرّكت عربته، تسبقها سيارة مجنزرة وتتبعها أخرى. تصفّح الجهات، لاحظ شيئًا ما أبيض أمام باب أحد البيوت. تقدّم جنديان بحذر، ببندقيتيهما الجاهزتين لإطلاق النار، وصلا الباب، ركل أحدهما ذلك البياض، انتشر على الأرض مغطيًا مساحةً واسعة من الشارع، صاح جندي: لا خطر، حليب!

خفق قلب الحاكم العسكري أكثر: هؤلاء الفلسطينيون يسخرون منّي، همس لنفسه

بعد أمتار كانت هناك عبوة أخرى، ووصل الجنود إلى تقاطع شارعين، فتحوّل الأمر إلى جحيم؛ كانت العبوات أمام الأبواب المغلقة أشبه ما تكون بالشموع، مضيئة وساطعة

حكاية ثالثة:

أبو خليل، الذي قاتل قبل أكثر من خمسين عامًا في الثورة الفلسطينية الكبرى، 1936، صاحب الدكان، كان يعرف أنه لن يدفع الضريبة للمحتلِّين. سمع أن الجنود وموظفي الضريبة يقتربون، فلم يجد أمامه سوى حلٍّ وحيد. وقف بباب الدكان وصاح مناديًا الناس

بدأ الناس في التجمّع، صغارًا وكبارًا، وعندما اطمأنّ إلى أن العدد الذي وصل قادرٌ على تنفيذ الفكرة التي في رأسه، قال: ها هي الدكان، كلّ ما فيها حلال عليكم، من هو في حاجة لشيء، أمانة الله، فليأخذه، وسأذهب وأقف بعيدًا هناك، حتى لا أرى ما يحتاجه أي شخص من أشياء

تراجع بعض الناس إلى الوراء، بعيدًا عنه، وتبادل آخرون النظرات. عرف أبو خليل بما يدور في رؤوسهم

يا أخواني، تعرفون أنني لن أدفع الضريبة مهما حدث، لأن عليهم هم أن يدفعوا ضريبة تشريدنا وقتل أبنائنا وتعذيبهم في المعتقلات وسرقة بيوتنا، وتعرفون أنهم سيصادرون كل ما في الدكان؛ أرجوكم، ساعدوني كي لا نسمح لهم بذلك، وأمسك بيد رجل من الذين تراجعوا، وسحبه وأدخله الدكان. تركه في داخلها وابتعد

لم يكن سهلا على أيّ منهم أن يأخذ شيئًا، لكنهم كانوا يعرفون أنهم إن لم يفعلوا سيندمون فيما بعد، لأن البضاعة ستُصادر، ولأنهم في حاجة إليها بسبب مقاطعة البضائع الإسرائيلية، ولا يستطيعون الدفع لأن الأعمال توقّفت

ووصل الصهاينة: سنأخذ الضريبة رغمًا عنك. أنت تقول أن لا شيء لديك، ولكنني أقول إن لديك الكثير الذي نستطيع أن نأخذه

وماذا لديّ؟!

لديك أربعة أولاد، سنعتقل اثنين منهم بدل ضريبة، ونترك لك الآخرَين، وفي حال إصرارك على عدم الامتثال للقانون، سنُصادر الولدَين الآخرين في جولتنا المقبلة

بقية الحكاية:

أمام الدكان، جالسًا كان أبو خليل يحتضن رأسه براحتيه. بعد دقائق عادت الحركة. لم يكن صعبًا على أبو خليل أن يسمع أقدامًا كثيرة تتقدّم نحوه، رفع رأسه، كان الناس قادمين لإعادة كل ما أخذوه من الدكان. قبل أن يَصِلوا، نهض، وأغلق الدكان ووضع المفتاح في جيبه

لو كنت أريدُ هذه البضاعة لخبأتها، هذه البضاعة خرجت من هنا ولن تعود ثانية، لأنها لكم، لا للجيش، وإذا لم تأخذوها اليوم سيعود ويأخذها بعد ساعة أو ساعتين، أو غدًا

كانت كلماته حاسمة بحيث استدار الناس مبتعدين

عاد وجلس، بعد قليل سمع خطوات ناعمة تتقدّم، لم يرفع رأسه، كان يفكر في حكاية البلاد كلها، متسائلًا إلى متى سنظلّ ندفع ضرائب لمن يقتلوننا؟

هزّته يدٌ صغيرة، رفع رأسه، ونظر إلى ذلك الوجه الجميل مثل حبة كرز: رولا؟

خُذْ هذه أيها الجدُّ العزيز!

أبو خليل كان يعرف افتتانها بالفصحى، لم يستطع منع نفسه من الابتسام سعادةً وهو يسمعها

أولا هذه الحلوى لكِ وليستْ لي، ألم أضعها في جيبك بنفسي قبل أن أوزِّع ما في الدكان على الناس؟

هذا صحيحٌ

لماذا تعيدينها لجدك أبو خليل إذًا؟

لأنكَ لا تملكُ الآن شيئًا يمكن أن تبيعَهُ

بطمْنك يا رولا، يا أجدع وأحلى بنت في فلسطين كلّها، جدك أبو خليل، مش ناوي يبيع شيء، لا من الدكان ولا من غيرها، وبخاصة نفسه

وبعـــد:

الأزمنة الصعبة هي أفضل مرآة يرى البشر فيها صورهم الحقيقية، ومن لا يستطيع أن يرى إنسانيته في لحظة الغليان هذه، لن يرى سوى أنانيَّته وجنونه وهو يطلب النجاة لنفسه، والهلاك للآخرين