بعد الاعتذار.. لماذا التجييش؟

لم أتوقع أبداً أن يصل ما قال عنه نقيب المحامين مازن ارشيدات إنه "زلة لسان" أو إساءة فهم لكلمة وردت على لسانه خلال حواره مع فضائية "رؤيا" إلى هذا الحد من الخلاف والتهديد، وبخاصة بعد أن تقدم ارشيدات باعتذاره المباشر لمن أساء فهم تصريحاته بشأن صفات الرسول الكريم.
وبغض النظر عن الخطأ الذي وقع فيه ارشيدات، لكنّ الصيادين دائماً جاهزون لأي موقف قد يتكسبون منه سياسيا، ولا يتعاملون مع أي شخص يختلف معهم في الموقف السياسي إلا بنفس الإقصاء والنحر. وهذا ما تفعله أصوات لم ترض باعتذار النقيب عبر بيان مكتوب ومؤتمر صحفي غطته عديد الفضائيات ووسائل الإعلام، وطغى عليه الطابع الديني، ونفى فيه بوضوح أن تكون عبارته مسيئة، بل شدد على أن من يتعمق بها يجد أنها تعظيم للرسول، لأنه من عائلة مسلمة تؤمن بأنه "لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله".
لم يكتف مازن ارشيدات بهذا، بل أكد استعداده للوقوف أمام القضاء والدفاع عن نفسه تجاه اتهامه بالإساءة للرسول الكريم في حال وجهت بحقه دعوى قضائية.
بعد هذ الا يمكن أن نسمي أفعال بعض الذين لا يتفقون سياسياً مع النقيب وتياره إلا عملية تكسب سياسي لن تصل إلى أي أهداف لأن الجسم النقابي الديمقراطي في نقابة المحامين يعي جيداً الفهم الديمقراطي وحرية الاختلاف بالرأي، ويدرك تماماً أن كل ما يحدث هو افتعال، ولا تحتاج القضية إلى كل هذا اللغط والتهديد، من وجهة نظره.
ارشيدات حسم في 21 أيار الماضي معركة نقابة المحامين بفوز صريح بحصوله على 1868 صوتاً في الجولة الثانية، في حين حصل منافسه من التيار الذي يفتعل الآن قضية في أروقة النقابة على 1183 صوتاً، وخرج راضياً ومعترفاً بهذه النتيجة التي يبدو أنها لم تعجب أنصاره حتى الآن، فوجدوا في كلمة وردت على لسان النقيب قضية للتكسب، وصوروها على أنها معركة مصير ووجود، على قاعدة "إما نحن أو هو"، لا بل وهم المحامون المفترض أن يدافعوا عن العدل ويلتزموا بأصول المحاكمات القانونية، حكموا على النقيب وطالبوا "بترحيله وتحويله لمجلس تأديبي"!
صحيح أنني لست خبيراً في الشرع ولا في علم اللغة، لكن هناك مساحات عديدة للتفسير. وإذا أخذنا بُعد المبالغة في قول النقيب إن "المواصفات المطلوبة في القضاة قد لا تتوافر في النبي"، فإنه ربما أراد أن يقول "إلا في النبي" من باب التعظيم، وأنه لا أحد وصل إلى هذه الدرجة غيره عليه السلام. ويحضرني في هذا المجال قول الرسول الكريم "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"، فأفهم أن في هذا دعوة لإعمال العقل والجهد بما فيه الخير والصالح، بخطاب يعطي للعقول والعمل المجال الأول في إقامة مجتمع الكفاية والعدل.
وعليه، فليس لأي حزب سياسي أو جماعة أو مناصرين أن يأخذوا القانون بأيديهم، وبخاصة إن كانوا من معشر العدالة، وأن يرفعوا شعارات إسلامية وكأن الطرف الآخر لا يمت للإسلام. وما يحدث فعلاً ليس إلا دغدغة لمشاعر جمهور المحامين الذين صوتوا قبل أشهر لخطاب وتيار النقيب ارشيدات، وعلى الطرف الآخر أن يحترم خيارات صناديق الاقتراع وألا يمارس التكسب السياسي بغية العودة بطرق التفافية إلى سدة الحكم في النقابة.
على السادة المحامين الذين انتفضوا من الخطأ اللفظي للنقيب ألا يشغلوا أنفسهم ويشغلوا المجتمع بمعارك جانبية حسب أجنداتهم، لتتحول الساحة إلى معارك بينهم وبين من يختلفون معهم سياسياً.
ثمة فرق بين المشاركة الإيجابية في الحياة السياسية والنقابية وبين "التكسب السياسي" عبر تسييس كل صغيرة وكبيرة في المجتمع، والتصيد للتصريحات بالكلمة والحرف، ومحاولة تجيير تلك القضايا  لكسب الشهرة الشعبوية والانتخابية. فالمشاركة الإيجابية المشروعة تأتي عبر قنوات الممارسة الديمقراطية المعتدلة والمساهمة في نشر ثقافة التسامح وقبول الرأي الآخر في المجتمع الواحد. لكن "التكسب السياسي" عبر التسييس اللامنطقي لكل كلمة، ونشر المماحكة ضيقة الأفق مناسبات تأزيم شخصانية وتفرد عدواني في الآراء لا تعكس في آخر الأمر فهماً مستنيراً للسياسة أو حتى دورها البنّاء والإيجابي بالنسبة للفرد والمجتمع.

osama.rantisi@alghad.jo