أوروبا الصينية

اخبار البلد-

 

كل حدث كبير يغير معه خرائط العام وتوازناته، وموارد الإلهام فيه، وحوادث الحرب ضد فيروس «كورونا»، الذي تحول طبقا لتصنيفات منظمة الصحة العالمية، من «مرض متوطن» إلى «وباء»، ثم إلى «جائحة»، عبرت إلى الدنيا كلها، وأغلقت عواصم الحركة في العالم الواسع، الذي لن يعود عند الافتتاح بعد الإغلاق، إلى ما كان عليه أبدا.
يعلمنا التاريخ الحديث بعد القديم والوسيط، أن حروب السلاح والأديان والأوبئة، صنعت المحطات الكبرى الفاصلة، وأذلت أمما وامبراطوريات، وقفزت بأخرى إلى صدارة المشهد المؤثر، وأن المنتصرين يفرضون روايتهم وثقافتهم وأساليبهم في الحياة، وهكذا كانت التحولات المؤرخة لبداية العصر الحديث، وبالذات في عام 1492، مع سقوط غرناطة، واكتشاف الأمريكتين، وتدافع موجات التجديد في أوروبا، وزحف قواها الاستعمارية إلى تضاريس كوكب الأرض، واحتلال أوطانه واستنزاف ثرواته، وتبديد هوياته، وتأكيد «سيادة الغرب» بالسلاح والعلم والتصنيع والكشوف الأثرية والتكنولوجية، إلى حد بدت معه سيرة أوروبا الحديثة، كما لو أنها سيرة الدنيا كلها، وحروبها الداخلية والخارجية، كما لو أنها حروب العالم بأسره، ونظرياتها في الاقتصاد والسياسة والأدب والفلسفة، كما لو أنها «فرض عين» على كل صاحب عينين.ولم يعد لأي فرد في الكون، سوى أن يناصر هذا الطرف الأوروبي أو ذاك.
وهكذا فرضت أوروبا تاريخها كأنه تاريخ العالمين، وحين دخلت أطرافها في حروب النصف الأول من القرن العشرين، حملت حربا أوروبا الكبيرتان صفة الحروب العالمية، رغما عن أنوف الآخرين، فلم يكن في العالم سوى الغرب والباقي (the west and the rest)، وسرت النظرة الدونية إلى الدنيا الباقية خارج الغرب، وكأنها سقط متاع، بينما هي أغلب شعوب العالم وحضاراته المتنحية في الشرق والجنوب، وطغت نظرة التسيد الأوروبي، حتى بعد دخول أمريكا على خط تسيير شؤون العالم، فأمريكا في البدء والمنتهى منتج أوروبي تاريخيا، وإن بغلظة وشراسة أكبر، وبموارد لم تتوافر لقوى أوروبا المسيطرة قبلها، ومع إدعاء نظرة إنسانية وأخلاقية ورسالية معدومة الأساس، فقد قتلت أوروبا وجيوشها الغازية مئات الملايين من شعوب المستعمرات، وجعلتهم موارد لغنائمها، التي كان طبيعيا، أن يدب الخلاف على عوائدها، في حروب أوروبا البينية المتوالية، إلى أن دارت الحربان الأولى والثانية، اللتان عرفتا بالعالميتين، رغم أن أغلب شعوب العالم كانت لا ناقة ولا جمل لها فيهما، وهما حربان أوروبيتان ـ أوروبيتان بامتياز، استمرت الأولى بين أواسط 1914 إلى نهاية 1918، وسقط فيها ثمانية ملايين قتيل، على أقل تقدير، ومثلها من الجرحى والمشوهين والمعاقين، إضافة لخمسين مليون قتيل بوباء «الأنفلونزا الإسبانية» المصاحب للحرب، وهزمت فيها ما كانت تسمى «دول المركز»، وانهارت الامبراطوريات الألمانية والنمساوية والعثمانية، في ما فازت جبهة حلفاء بريطانيا وفرنسا وروسيا، التي كانت قد خرجت من الحرب قبل أن تنتهي، مع نشوب الثورة البلشفية في أكتوبر 1917، وكشفها لوثائق توزيع الغنائم بين بريطانيا وفرنسا، وفي ما كانت أمريكا على مقربة من وقائع الحرب الأولى، فإنها دخلت مباشرة إلى الحرب الثانية، نجدة لبريطانيا وفرنسا، بعد الانتصارات السريعة لألمانيا الهتلرية، التي صنعت محورا هذه المرة مع إيطاليا موسوليني في الحرب، التي دارت رحاها الأعنف بين عامي 1939 و1945، وسقط فيها ما يزيد على ستين مليون قتيل، ودخلت روسيا السوفييتية على خط القتال بعد أن غزاها هتلر، وتمكن الحلفاء في النهاية من قهر ألمانيا واحتلالها وتقسيمها، لعقود طويلة زمن الحرب الباردة، في ما تمكنت أمريكا من سحق اليابان، التي دخلت الحرب متأخرة إلى جانب دول المحور، وكانت النهاية باستخدام أمريكا للقنبلة الذرية في محرقة هيروشيما وناجازاكي.

أثبتت الصين أنها الأقوى مناعة في العالم الجديد، الذي يتخلق اليوم، وبحبر وختم ونفس صيني تماما

وهكذا جرى فرض خرائط قوة، سيطرت حتى القريب، وصنعت جهاز مجلس الأمن القائد لمنظمة الأمم المتحدة، وأعطت مقاعده الدائمة للمنتصرين، ومنحتهم حق الاعتراض «الفيتو» بإشارة أصبع، وحجزت لبريطانيا وفرنسا وأمريكا وروسيا أربعة مقاعد مضمونة، فيما تلكأ المقعد الخامس طويلا، حتى سبعينيات القرن العشرين، وأرادت أمريكا حجزه لحليفتها جزيرة «تايوان» الصينية، وإلى أن جرى التسليم بأحقية جمهورية الصين الشعبية، التي تتقدم الآن بثقة وتواضع لصناعة العالم الجديد بعد حرب «كورونا» بالذات.
وبالجملة، يبدو دور أوروبا، ومنتجها التاريخي الأمريكي، إلى تراجع أكيد، ليس فقط بسبب ما بدت عليه من عجز مخز في حرب «كورونا»، مقابل تفوق الصين الباهر، بل لأن الحرب نفسها بدت كورقة نبات «عباد الشمس»، التي تتحول حركتها مع نور الشمس، وتتغير ألوانها في حركة دائبة لا تزول، وربما بذات المغزي الذي قصده الرئيس الصيني جي شين بينج، في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء الإسباني، كان الأخير يستنجد بالصين في مواجهة تفشي «كورونا» المريع، ورحب الرئيس الصيني، وقال لمحدثه الإسباني «غدا تمضي العاصفة وتشرق أشعة الشمس»، وبالفعل جاءت الشمس المقبلة من اتجاه الصين، فما من دولة أوروبية كبرى أو صغرى، تخلفت عن طلب النجدة من الصين، التي راحت تخطو في استعراض عظمة ذي طابع إنساني شامل، وتزحف طائراتها إلى مطارات أوروبا، بمئات وآلاف الأطنان من الكمامات والبدلات الواقية والمستلزمات الطبية وأجهزة التنفس الصناعي، في ما أغلقت أمريكا بابها عليها، وراحت تتعثر في المواجهة، وتنافس إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا في أعداد المصابين والوفيات المخيفة، وتواجه مخاطر التدهور الكامل للنظام الصحي، وتظهر انهيارا أخلاقيا، كان ملازما على الدوام لدورات الصعود الغربي، وإلى حد إعلان رئيس الوزراء البريطاني جونسون، تفضيله لاختيار ما سماه «مناعة القطيع»، أي ترك العدوى تتفشى، وتميت الملايين من كبار السن، في ما لا ينجو سوى الأكثر مناعة، على طريقة «البقاء للأقوى» ذات الأصل الدارويني.
وفيما بدا أن جونسون تراجع في ما بعد عن كلماته الوحشية بصورة جزئية، فقد واصل ترامب الأمريكي تجاهله لأوروبا الغارقة في المصيبة، وقطع التواصل الجوي معها، ولم يقدم لها جرعة دواء، بل أراد استنزافها وسرقتها، على طريقة عرضه شراء شركة «كيور فاك» واحتكار «لقاح كورونا» لأمريكا بمفردها، وهو ما ردت عليه الحكومة الألمانية بقولها «ألمانيا ليست للبيع»، غير أن طريقة ترامب السوقية، وبأصولها النفعية البراغماتية الداروينية، بدت كأنها عقيدة دوائر أوسع في أوروبا العجوز المتهالكة، فقد عجز الاتحاد الأوروبي عن تقديم أي عون مؤثر لدوله السبع والعشرين، وظهرت دعوات في إيطاليا وغيرها، تطالب بترك كبار السن للموت، بهدف تخفيف الضغط على النظام الصحي ومنشآته المحدودة القدرة، ولم تتراجع الدعوات غير الأخلاقية، إلا بعد تدخل الصين بمعوناتها الهائلة عبر الجسور الجوية الذاهبة لأوروبا، وعبر قطارات فائقة السرعة، تحمل شحنات الإنقاذ، من شرق الصين إلى عواصم أوروبا الغربية، لنجدة القارة الشائخة، المنهكة سياسيا وطبيا وماليا، إضافة لبروتوكولات العلاج، التي تقدم الصين أغلبها، كذا محاولات التسريع بإنتاج لقاح، تقودها الأكاديمية الطبية العسكرية الصينية، وهكذا بدت الصين بوجه إنساني مشرق، تقدم المعونات بالمجان، وتكسب نفوذا مهولا لقوتها الناعمة، المصحوبة بتفوق تكنولوجي جبار، وبإمكانيات وفوائض مالية فلكية.
ولم يأت التفوق الصيني المذهل من فراغ، ولا هو محض مصادفة طبعا، بل أتي مرتبطا بدورات التاريخ وحوادثه الكبرى، فقد أنهكت الحرب الثانية قلب الغرب المسيطر في أوروبا، وكتبت نهايته في حرب السويس 1956، وانتقلت القيادة الغربية إلى أمريكا، التي أرهقها دور شرطي العالم الوحيد، وزادت نفقاتها العسكرية على حساب قوتها الاقتصادية والإنتاجية، فيما كانت الصين تصعد في هدوء وسلاسة منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين، وتحقق في نحو أربعة عقود لا تزيد عن ذلك، أكثر مما حققه الغرب كله في أكثر من خمسة قرون، وبدون أن تحتل أحدا، أو أن تبيد بشرا خارجها، كما فعلت أوروبا وأمريكا، وراحت الصين تراكم إنجازاتها، إلى أن هزمت أمريكا في حرب العولمة الاقتصادية، وألجأت واشنطن إلى الاختباء وراء حواجز حمائية وتعريفات جمركية عشوائية، لم تنجح في إنقاذ الاقتصاد الأمريكي المدين الأول في العالم كله، بينما تحولت الصين إلى موقع المقرض والمانح الأكبر لبلاد الدنيا كلها، ونفذت أكبر عرض عسكري في التاريخ، تلاه أعظم عرض تكنولوجي وعلمي في حرب «كورونا»، وأثبتت الصين أنها الأقوى مناعة في العالم الجديد، الذي يتخلق اليوم، وبحبر وختم ونفس صيني تماما، وعلى نحو يكاد يجعل أوروبا اللاتينية كأنها «أوروبا صينية».