فصل المقال بين الملاريا والكورونا في التاريخ الإيطالي

الملاريا المزمنة وكورونا المستجد يميتان تقريباً العدد نفسه على الصعيد العالميّ حالياً. مع رجاحة موتية يومية لا تزال معقودة للملاريا، هذا المرض الذي تتسبب به لسعات البعوض ويحصد سنوياً قرابة النصف مليون نسمة، أغلبهم في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ليحتل المرتبة الوبائية الثالثة سنوياً من بعد السلّ والأيدز. أكثر من تفتك بهم الملاريا في الأطفال دون الخامسة من العمر، هذا في مقابل ضراوة الكورونا على المسنين والذين يعانون من أمراض مزمنة.
تأجّلت كل المواعيد التي ضربتها منظمة الصحة العالمية على امتداد العقود للتخلّص من الملاريا، وأظهر الوباء، لا سيّما في أفريقيا، قدرة على الالتفاف على الأدوية التي كانت ناجعة في مواجهته الواحد بعد الآخر. وهذه حال مركّبات الكينين والمفلوكين والكلوروكين والهيدروكسي كلوروكين. كلّها كان لها أثر فاعل في مواجهة الملاريا، وساهمت في اجتثاثها أو تراجعها في أقاليم عديدة من العالم، إلا أنّ الملاريا تمكنت في افريقيا، إلى حد كبير، من تجاوز كل هذه الأسلحة المبتكرة لمواجهتها.
واحدة من مفارقات اللحظة الحالية، أنّه في وقت تبدو الملاريا مغفلة تماماً من التناول العالمي، ويجهد الكوكب لتجميد حركته سكانه واقتصادياته لأجل عرقلة حركة تفشي فيروس الكورونا، فقد أطلّ اسم الملاريا مجدداً، من خلال الأخذ والردّ حول نجاعة مركّبي الكلوروكين والهيدروكسي كلوروكين في مواجهة الكورونا، وهما أساساً دواءين للملاريا خفت فعاليتهما مع الوقت في مواجهتها بأفريقيا.
ويتأرجح هذا الأخذ والرد بين التداول المختبري حول هذين المركّبين من الصين وكوريا الجنوبية إلى فرنسا، إلى اندفاعة دونالد ترامب الهوجاء، وهو على عجلة من أمره انتخابياً، للتسويق للكلوروكين كيفما كان، إلى هرج ومرج على امتداد العالم لتخزينه بل وتناوله، رغم كل تحذيرات المرجعيات العلمية والصحية من خطورة استخدامه بدون اشراف طبي.
أما المفارقة الأكثر مأسوية فهي أنّ ايطاليا، الأمّة التي تشكّلت إلى حد كبير في سيرورة صراعها الطويل مع الملاريا، بل تسمّى هذا المرض بكلمة ايطالية في الأساس، تعني الهواء الفاسد، هي اليوم أكثر الأمم المنكوبة بالكورونا، وقد تجاوز عدد الوفيات جراء هذا الفيروس فيها، وبشوط، نظيره في الصين.
في مؤلّفه المرجعي عن حرب «التغلّب على الملاريا» في ايطاليا، يشرح مؤرّخ الأوبئة فرانك سنودين أنّ ايطاليا أدركت ما بعد إنجاز وحدتها القومية أنّ مسار التحديث فيها رهن تمكّنها من خوض المعركة مع الملاريا بنجاح. عام 1861 انجزت الوحدة الإيطالية في بلد كان لا يزال 2 في المئة فقط من سكانه يتكلمون الإيطالية، وفي العام نفسه أودت الملاريا بحياة أحد أبرز الذين انجزوا استحقاق الوحدة القومية لشبه الجزيرة، كاميلو كافور، الذي كان يمثّل المقلب المحافظ والملكي من الحركة الوحدوية، في مقابل النزعة الجمهورية الثوروية عند مازيني وغاريبالدي (الذي أودت الملاريا بحياة زوجته).


مثّلت الملاريا خطراً عسكرياً، حين تفشت في الجيش الإيطالي وهو يزحف على روما لتقويض السيطرة البابوية عليها عام 1870، وسرعان ما تحوّلت مسألة الملاريا إلى تحدّ أساسي في مسيرة تشكيل الأمة، لأنه سيتضح أكثر فأكثر أن الملاريا مثّلت حاجزاً دون التكامل الوطني بين المدن والأرياف، ودون معالجة الفجوة الاقتصادية ـ الاجتماعية والثقافية بين الشمال والجنوب، ومع بداية القرن العشرين صار الترادف أكبر بين «المسألة الجنوبية» وبين مسألة الملاريا في ايطاليا.
احتاجت ايطاليا لقرن كامل كي تنتصر على الملاريا، وارتبط هذا بمسار هيمني للشمال فيها على الجنوب. اليوم، يبدو المشهد مقلوباً مع الكورونا، فعلى الرغم من ازدياد مؤشرات توسع المدى الوبائي، إلا أنه يتكثف في شمال البلاد، في لومبارديا.
ومع أن ايطاليا كانت أول دولة أوروبية تقطع الملاحة الجوية بينها وبين الصين منذ شباط/فبراير، فإن الجائحة أصابت شمالها بشكل كارثي للغاية، وارتفعت نسبة الموتية بسبب الكورونا فيها أكثر من أي بلد آخر، وأظهر نظامها الصحي عن خلل كبير جراء تراجع عدد الأسرة في المستشفيات بشكل حاد في العقدين الأخيرين. بالتوازي، تعاملت بلدان الشمال الأوروبي معها على أنها «جنوب على جنوب». أعرضت حكومات أوروبا ومؤسسات الاتحاد عن مدّ العون والإسعاف للمناطق المنكوبة، ضاربة بفكرة الوحدة الأوروبية عرض الحائط، وصعدت نزعة عنصرية مناوئة للإيطاليين عبر العالم على خطى العنصرية ضد الصينيين، هذا في مقابل اعتماد ايطاليا أكثر فأكثر على مستلزمات طبية من الصين وجنوب أفريقيا، أضف للبعثة الطبية الكوبية التي أكدت من خلالها الجزيرة الاشتراكية أن التزامها الأممي ضد الكوليرا في هاييتي، وضد الإيبولا في افريقيا الغربية، سيحط رحاله هذه المرّة في أوروبا، كما لو أنّه يعيد رسم نطاق جنوب العالم على أنّ حدوده جبال الألب.
في كتابها الأساسي للغاية «صناعة أمة. الإيطاليون والوحدة»، ترصد المؤرخة ايلينا موزياني الطابع المزمن للمشكلة الهوياتية بين شمال شبه الجزيرة وجنوبها، واستمرار نظرة جنوبية سلبية بشكل أو بآخر تجاه مرحلة «الانبعاثة» (الريزورجيمنتو) التوحيدية القومية بوصفها غلبة شبه استعمارية للشمال، وتربط موزياني استمرار هذه النظرة بعدم تمكّن الحركة التوحيدية لإيطاليا من أن تكون ثورة برجوازية كاملة، وانتقال مركز هذه الحركة سريعاً نحو النخب المحافظة التي كان عليها في الوقت نفسه أن تقود عملية الإدماج والتحديث (أي ضمناً، محاربة الملاريا). الطامة في آخر الأمر أنّ الشمال هو الذي فكر بالانسحاب من الدولة الموحدة، بدلاً من الجنوب المشتكي من النظرة شبه الاستعمارية اليه. محنة الكورونا أقرب ما تكون إلى الصدمة بالنسبة إلى هذا التفكير، صدمة يضطر فيها الشمال للإنتباه إلى أنه اذا كان في المعدّل العمري لمسنيه «شمالي» بامتياز، فإنه بالنسبة إلى النظام الصحّي والإجتماعي أكثر جنوبية مما يخال. لا يعني هذا أن ثمة مسار أحادي لتوظيف هكذا صدمة بالضد من الشعبوية اليمينية. وهنا، لا بأس بالتقاط شيء نافع التقطه الفيلسوف الايطالي جيورجيو أغامبين مؤخراً. فعلى الرغم من شطط الأخير حين كاد أن يستنكر أن يعامل الكورونا بشكل مختلف عن معاملة الإنفلونزا العادية، إلا أن تخوّفه من سهولة اللجوء إلى «حال الاستثناء» وأحكام الطوارىء وتقويض الحريات العامة والخاصة بداعي مواجهة الفيروس له ما يسوّغه. يحدس أغامبين بخطورة التعامل مع فيروس الكورونا كما لو أنه عدو حربي، يقول: «ان حرباً ضد عدو لا مرئي يمكنه أن يتخفى في أي شخص آخر هي من أكثر الحروب عبثية، انها في الواقع حرب أهلية». لم يوفّق أغامبين في استسهال خطر الكورونا ولم يفهم السمة الكونية للمشكلة الحالية، لكن أساس فكرته يبقى سليماً، ذلك أن كل حرب ضدّ عدوّ لامرئيّ تنزع بالضرورة إلى تلبيس ما هو غير مرئي في ما هو مرئي، أي إلى التفتيش عن قربان، عن عدو من لحم ودم. هكذا كانت الحال في حرب ايطاليا على الملاريا، وهذه حال ليس فقط ايطاليا، بل العالم أجمع، في الحرب على الكورونا اليوم.
كاتب لبناني