عمر كلاب يكتب : سياسة الاسترضاء تنجب مأجورين لا ابناء

 
في حضرة الوطن، تصبح الأرقام وجهة نظر، لا مجرد دلالات جامدة، وللتقريب عندما كان «الأردن أولاً» شعاراً ودلالة، لم يكن معنى أولاً تراتبية الأرقام، بل شعور وحضور، فلا قيمة تعلو قيمة الوطن والأرض.

في زمن النخاسة والدلاسة، يصبح الرقم وجهة نظر معكوسة وتصبح الاوطان أرقاماً ويصبح الانتماء لها رقما في رصيد أو مجموعة « قواشين» ومناصب, تعني أن الانتماء مربوط بالمنصب، فتتغير المواقف بتغير المواقع.

كل هذا موجود بدلالات واضحة، فهناك من آمن بالوطن اولاً وهنالك من تاجر بالرقم ودلالته وبقي الوطن على نفس المسافة من الطرفين، الى أن جاء زمن بات فيه الانتماء سلعة رسمية تخضع للرسوم والمكوس والضرائب، واسهمت الحكومات في تكريس الصورة وتنميطها، فكثرت الهبات والاعطيات كأننا في دوله نفطية يحكمها «اوتوقراط»، وخضع الانتماء لمعادلة السوق والعرض والطلب، فمن يبتعد ويطرح بضاعة مخالفة ترتفع اسهمه واسعاره فيبدأ موسم الطلب والاعطيات والمناصب والاسترضاءات من كل الجهات, وتسلل الوعي الزائف الى هذه المعادلة فمارسها كثيرون وسط تدليل الدولة لهم بل والتواطؤ معهم كي يقبلوا علاقة من طرف واحد.

انتشرت الظاهرة وباتت خريطة طريق للتعامل مع الدولة والتعاون معها، فرأينا مناصب تمنح دون وصفة طبية والوصفة هنا النزاهة والكفاءة وسمعنا ورأينا شيكات ومغلفات، وكما يقول الزميل الاستاذ محمد حسن التل رئيس التحرير المسؤول لجريدة الدستور: باتت الدولة تستعذب من يجافيها وتبتعد بل وتمعن في الابتعاد عن الأبناء البررة الذين لا يرجون منها الا الحب والرضى.

قبل سنوات نصحني مسؤول من العيار الثقيل نصيحة مفادها «إحذر ان تعلن الانتماء كاملاً ودائماً لأن الدولة ستضعك في جزدان وتجلس عليك فلا تراك، إحرص على ان تنخزها كل فترة حتى تخرج الجزدان وتراك فتتذكرك». يومها استغربت من رجل وصل الى هذا المنصب ان يقدم النصيحة تلك، لكن ما ان جلست لاكثر من ساعتين في منزله دون ان يرّن هاتفه، ادركت المغزى والجرح الذي يعانيه، فقد كان إبان المنصب يحتاج الى اكثر من اجندة في اليوم لكتابه اسماء المتصلين والدعوات وهو ما زال على قيد الحياة، منحه الله الصحة, عندما ينسج الوطن العلاقة مع ابنائه على هذا الشكل يصبح الوطن مجرد جواز سفر.

والدولة تقوم الان بأبشع اشكال الاسترضاء وشراء الحب والانتماء، فقد رأينا على مواقع التواصل الاجتماعي صور شباب يلقون باوراق العملة على الارض وهم يعلنون مصدرها وسمعنا عن أرقام فلكية لاشخاص يتولون مناصب يشيب لذكرها الوِلْدان وما زالت شيكات النواب المعلنة والمخفية ساخنة وحبرها لم يجف.

الان اصبح المواطن او المثقف او الكاتب يخشى ان يعلن انتماءه وموقفه ليس خوفاً من الارهاب الفكري الذي تقوده احزاب وتيارات معاكسة لرأيه او ما تسمى دلعاً احزاب وتيارات المعارضة بل خشية من الدولة واجهزتها التي باتت تشتري الانتماء والمواقف فيختلط الحابل بالنابل وتصبح مجرد مؤدٍّ في جوقة او عامل مياومة يحصد اجره قبل جفاف العرق.

ترى اشخاصاً كانوا في اعلى السلم الوظيفي الرسمي وقد باتوا معارضة شرسة لان الابن لم يحصل على المنصب اسوة بالنظراء او لم يصله هو, وترى معارضا وقد اصبح أشرس من البيروقراطي في دفاعه عن الخطأ والقرار التعيس فتعرف الازمة وتغلق عقلك وترحل.

نسمع عن محاولات الاسترضاء وشراء الانتماء ورأينا محاولات خلال فترة قريبة كانت الاطراف كلها حاضرة اثناء ازمة لزميل، والاهم نرى نتائج هذا الاسترضاء والشراء كيف ينقلب الى وباء ينتقل بالعدوى من اللمس او النفس او التقليد واصبح الرقم حاضراً في كل مناسبة والنصائح تتتالى لفوترة الموقف وعدم الاستمرار في «الهبل» مع غمزة من العين الاخرى.

سياسة الاسترضاء قد تكون ناجحة في وقت ما ومع شخص بعينه لكنها تفرز سلوكاً مأجوراً لمأجورين لا منتمين وبالمقابل تدفع كثيرين للهرب من الاستحقاق حتى لا يوضع في نفس الخانة مع المدلسين وتجار المواقف.

هناك مثل لطيف يختصر المشهد يقول «جوز السحورة «الشعوذة» وابن النذورة ليس فيهما الخير».

وأخشى ان الدولة تعتمد على زوج محجوب، له ابن ينمو كل شبر بنذر.