غريزة القطيع: سياسة أم مناعة؟

20 - مارس - 2020

غريزة القطيع: سياسة أم مناعة؟
 
6
حجم الخط

 

 

حتى عهد قريب كانت خدمات قطاع النقل العمومي في تونس مقبولة، إلا أنه لم يكن يندر أن يفوق عدد الركاب عدد مقاعد الحافلة أو القطار، وأن يضطر بعضهم إلى قضاء الرحلة واقفا. وكان هذا أكثر ما يخافه المسافر، خصوصا إذا كانت الرحلة غير قصيرة. وقد حدث في السبعينيات أن تعطلت حافلة كانت تنقل ركابا من تونس العاصمة إلى إحدى مدن ولاية بنزرت، فاضطر الجميع للنزول بانتظار أن ترسل شركة النقل العمومي حافلة أخرى لإكمال الرحلة. ولم يطل ترقب الحافلة، فما إن لمحها المسافرون حتى أخذوا يتزاحمون ويتدافعون لأن كلا منهم كان يريد أن يضمن الحصول على مقعد. وبما أن التدافع بينهم كان من النوع المحلي الأصيل، فقد وقع ما لا غنى عنه من الصراخ والسباب والعراك. وما كانت مناشدات السائق ومحصل التذاكر لتجدي نفعا. ذلك أن الإخوة الأعداء قد نسوا، في خضم انجرارهم إلى غريزة القطيع، أن الحافلة الأولى قد وسعتهم جميعا جالسين مطمئنين لأن عدد الركاب قد كان بعدد المقاعد!
تذكرت هذه الحادثة عندما شاهدت مراسل تلفزيون بي بي سي في روما يقول إن يوم الأربعاء وحده شهد 475 وفاة جديدة في إيطاليا، قبل أن يضيف: «إلا أن محال بيع المواد الغذائية لا تزال عامرة بمختلف السلع، حيث لم يحدث أي تسابق على شراء الأغذية وتخزينها مثلما وقع ويقع في بريطانيا. ذلك أن الإيطاليين يتصرفون بهدوء وتعقل». على أن «التسابق» كلمة مهذبة لا تفي بغرض التعبير عما انتاب البريطانيين منذ أن بدأ تفشي الوباء. إذ الحقيقة أن التكالب قد صار هو الصفة الغالبة عليهم، حيث صار كثير منهم يتزاحمون ويتنافسون بمنتهى الجشع على شراء المواد الغذائية ومواد النظافة. بل إن بعضهم صار يبكّر بالنهوض ليفوز بمكان متقدم في الطوابير المصطفّة، بداية من الرابعة والنصف فجرا، أمام المحال التجارية الكبرى. وقد نشرت الجرائد صورا وبثت التلفزيونات مشاهد لهذه المحال كيف تكون عامرة في السادسة صباحا وكيف تضحي خاوية بعد بضع ساعات. ولهذا صار الناس العاديون، الذين لا يرضون لأنفسهم الإصابة بحمّى التكالب الاستهلاكي، كثيرا ما يضطرون إلى أن يطوّحوا بعيدا عن منازلهم ومناطقهم عساهم يجدون محلا فيه بعض ما يشترى من الغذاء والمواد الأساسية.

الخوف من المجهول عند وقوع البليّة كثيرا ما يؤدي إلى الإصابة بعدوى فعل ما يفعله الجميع. ولأن فعل المحاكاة هذا يقع بدون تفكير فإن المرء نادرا ما يدرك أن الإصابة بهذه العدوى السلوكية ليست إصابة طبيعية وإنما إصابة اجتماعية

على أن هذه حمى مفتعلة، كما أن الإصابة بها طوعية. ذلك أن التجار والموزعين ومسؤولي التموين يؤكدون يوميا أن إمدادات الغذاء متوفرة مثل المعتاد وألا مبرر إطلاقا لهذا التخوف ولهذا التكالب. أما ما أغفلوا التذكير به فهو أن ما تشكو منه بريطانيا منذ عقود ليس الندرة وإنما هو الوفرة المؤدية إلى فرط الاستهلاك وكثرة كبّ الطعام في القمامة، حتى أن الجمعيات الخيرية قد دأبت على التنبيه إلى أن ما يلقيه البريطانيون في القمامة من الطعام الصالح للأكل تبلغ قيمته مئات ملايين الجنيهات سنويا.
ومعروف أن الاستسلام لغريزة القطيع، التي تحتم على كل فرد أن يتصرف كما يتصرف الآخرون، هو من العادات التي تسود أثناء الكوارث والأزمات. إذ إن الخوف من المجهول عند وقوع البليّة كثيرا ما يؤدي إلى الإصابة بعدوى فعل ما يفعله الجميع. ولأن فعل المحاكاة هذا يقع بدون تفكير، فإن المرء نادرا ما يدرك أن الإصابة بهذه العدوى السلوكية ليست إصابة طبيعية وإنما هي إصابة اجتماعية (أي أنها، في آخر الأمر، إصابة طوعية) لأنه يرى الناس متدافعين أو متكالبين، فينبري يصنع صنيعهم بدون أن يتوقف لحظة ليتذكر أن في إمكانه عدم الانضمام إلى القطيع، أي أن في إمكانه أن يستقل بتفكيره وسلوكه زمن الكوارث تماما كما كان يستقل بهما في الأحوال العادية.
هذا، وإذا كانت تهمة الاستسلام لغريزة القطيع تنطبق هذه الأيام على كثير من البريطانيين، فإنها لا تنطبق على حكومتهم. إذ بينما بادرت جميع الحكومات الأوروبية، منذ البدء، بانتهاج سياسة الحجر الصحي وإغلاق المدارس والمطاعم وإلزام المواطنين بعدم الخروج إلا للضرورة، فإن الحكومة البريطانية كانت ممتنعة، حتى منتصف هذا الشهر، عن اتخاذ أي إجراء باستثناء الركون إلى ما يسمى بـ»مناعة القطيع»، أي المناعة الجماعية التي تكتسبها أي بلاد ضد مرض معين بعد أن يصاب به حوالي ستين في المئة من السكان. وقد فات الحكومة البريطانية أن مجرد هذا المعطى الطبي المعروف لا يمكن أن يرقى في حد ذاته إلى مستوى سياسة حكومية! كما فاتها أن بقية الحكومات الأوروبية تعرفه هي أيضا ولكنها لم تتخذه ذريعة لإلقاء الحبل على الغارب والتقاعس عن اتخاذ إجراءات وقائية حازمة وعاجلة. على أن هذا الشذوذ البريطاني، الذي شكل امتدادا للموقف الانعزالي البركسيتي، سرعان ما انتهى الاثنين الماضي لمّا أفاق جونسون من غفلة التوهم بأن ترك الوباء يأخذ مداه ويحصد ضحاياه هو «منتهى الأرب» في حسن التدبير السياسي.