منع صلاة الجماعة زمن "كورونا": مقاربة أصولية

 اندلع مؤخرا  نقاش بين مؤيدي ومنتقدي قرار السلطات الرسمية في أكثر من بلد إسلامي بمنع  التجمع لصلوات الجماعة اليومية الخمس في المساجد بسبب كورونا ، ولا اخفي شعوري بالصدمة في اندلاع نقاش كهذا في زمن كورونا ، يبدو فيه الحكم من الواضحات والجهل به من الفاضحات ، ولست هنا أستهين بأحد ،وإنما أتابع مرثيتي لرواج ما أسميه الفقه البدوي، الذي ذبح الشريعة الغراء وبحسن نية على يد محبيها بضرب مقاصدها ، وما يثير الصدمة أكثر هو اندلاع هذا النقاش في طبقة علمية لها صلة وثيقة بعلوم الشريعة ، وإذا كان العذر مفهوما لعوام المسلمين من غير المتخصصين في ابداء عاطفتهم التقية النقية حيال الصلاة وحاجة المسلمين الى القنوت الجماعي في النوازل والتوكل على الله ،واذا كان مفهوما ومبررا إساءة الشعوب العربية الظن بسلطاتها التي احتفل وزراء داخيلتها بكورونا واحسنوا الاستثمار فيه للتخلص من صداع المعارضات وأماكن التجمع والتحشيد التي يعتبرونها بؤرا للشغب ، إلا أن كل هذا لا يعفي طبقة من طلاب العلوم الشرعية الذين يمارسون انغلاقا مدانا، وتقصيرا علميا لا يتسامح معه، في أسلوب تعاطيهم  مع مثل هذه النوازل بحيث تشعر أن الروح العامة لطلاب العلم روح تصوف وليست روح تفقه و يجعلك تردد حياله بيتا ينسب للإمام الشافعي عن أهمية الامرين معًا: 
فقيها وصوفيا فكن ليس واحدا فاني وحق الله اياك انصح ..
فذلك قاسي القلب لم يذق التقى وذاك جهول كيف ذو الجهل يصلح

* يستند بعض منتقدي فتوى الحظر في رأيهم الى أن صلاة الجماعة لم تسقط في حالة الحرب فشرعت صلاة الخوف جماعة ، والى أن العدوى ليست قطعية ولا ترتكب مفسدة قطعية ( مفسدة ترك صلاة الجماعة والجمعة ) لحساب درء مفسدة ظنية غير محققة الوقوع (مفسدة العدوى)، وبأن مصلحة الدين مقدمة على مصلحة  النفس فيجوز اتلافها في الجهاد لنصرة الدين، وعليه فالجماعة التي هي مصلحة الدين  مقدمة على  مصلحة النفس المعرضة للهلاك بالمرض، ويستدلون بأنه لم يرد أن من كانوا في بلد الطاعون الذي أصاب بلاد المسلمين  زمن عمر بن الخطاب منعوا قيام صلاة الجماعة.

* وللحقيقة فكل من ليس أصوليا متخصصا في أصول الفقه (قواعد الإفتاء)، وليس في الفقه، يصعب عليه اجراء مقاربة مقبولة ولأن المقال لا يسع لمناقشة بحث علمي أصولي طويل فسأكتفي هنا بمقاربات سريعة وما أحسنت فيه فمن الله وما أخطأت فيه فمن نفسي ومن الشيطان.
 
* يتوجب قبل الخوض في المسألة التفريق بين ثلاثة أحكام: 
حكم إقامة الجماعة في البلد على وجه العموم 
حكم وجوب صلاة الجماعة على الفرد المسلم 
حكم وجب أداء الجماعة في المسجد 
والحقيقة أن الفقهاء مختلفون في المسألة الا أنه معلوم أن أوسط الآراء أن اقامة صلاة الجماعة في البلد فرض كفاية.

* وأما حكمها على الفرد فوقع فيه الخلاف فالمعتمد من رأي المالكية والحنفية أنها سنة مؤكدة، والشافعية أنها فرض على الكفاية، والحنابلة على انها واجبة وجوبا عينيا، ومع أن رأي السادة الحنابلة هو أشد الآراء، إلا أنهم أجازوا أن يتركها الفرد إن  كان مريضا أو خاف من المرض ، او خاف فوات مال تقوم به  معيشته  او خاف على أهله أوماله ، أو خاف أذى البرد والوحل والمطر 
*وأماعن شرط أدائها في المسجد فلم يوجب جمهور الفقهاء على المسلمين أداء صلوات الجماعة في المسجد (الجمعة  تحديدا يشترط لانعقادها المسجدية) ، بل إن الأحاديث متضافرة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاها في غير المسجد ، ومن هذا حديث أنس بن مالك الذي رواه مسلم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما تحضره الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحتع فيكنس ثم ينضح ثم يقوم فنقوم خلفه فيصلي بنا قال وكان بساطهم من جريد النخل ) رواه مسلم.

*وأما ما سيق من الأدلة فواهية في مسلك الاحتجاج بها ، فصلاة الخوف شرعت للجماعة وشرعت للفرد بحسب حال المعركة ،فلا يعقل أن نساوي في صلاة الخوف بين جيش نظامي منتشر انتشارا عسكريا نظاميا في الميدان وبين فرد مجاهد مكلف بمهمة جهادية او كمين سري لا يحسن اجتماع افراده وانكشافهم وإلا أبيدوا ، ولهذا فاجتماع الصحابة لصلاة الخوف كان  صلاة لجيش نظامي كبير منتشر انتشارا علنيا وليس لان صلاة الجماعة لا تسقطها الحرب ،وكان متحرزا فيه من مباغتة الكفار يقيام بعض الجيش بالصلاة مع السلاح وقيام بعضه الاخر بالحراسة ريثما ينتهي القسم الأول ثم التبديل بانتقال من فرغ  من الصلاة للحراسة وانتقال من كان يحرس الى الصلاة ، وقد ورد عن عبد الله بن أنس رضي الله عنه قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني الى خالد بن سفيان الهذلي ،فقال اذهب فاقتله ،فرأيته وقد حضرت صلاة العصر، فقلت إني أخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة ،فانطلقت أمشي وأنا أصلي أوميء إيماءا نحوه ، فلما دنوت منه كلمته ومشيت معه حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد (قتل). رواه أحمد.
 
*وهنا لم يشهد الجماعة بل صلاها فرديا لأن مهمته كانت أمنية ولم يكن جنديا في جيش منتشر انتشارا علنيا ، ثم كيف سيتم التوقي من كورونا فالعدو يجتنب بالسلاح وحسن الانتشار العسكري ،وكورونا تجتنب بمنع الاجتماع فهذا قياس مع الفارق . 

*واما قولهم أنها مفسدة مظنونة في مقابل مفسدة قطعية فكلام واه أيضا ،ففي زمن الوباء الاجتماع يتسبب بالاصابة بالمرض بغلبة الظن، والظن الغالب في نظر السادة الأصوليين كاليقين فتصبح كالضرر اليقيني .
 *واما استدلالهم بان صلوات الجماعة لم ينقل أنها  منعت زمن الوباء فعدم النقل لا يعني عدم الشيء ، كما أن العبرة بما يتسبب بوقوع الضرر وهو المخالطة في المسجد أو غيره ، وهذا مما لا سبيل الى معرفته بنفس دقة عصرنا لدى الفقهاء القدامى ،فلا يبنى على فتواهم ،هذا اذا وجدت أصلا، ولحديث رسول الله في منع غدو الممرض على الصحيح منعا للعدوى .
*فقه الموازات وكيفية أجرائه في المسألة:
واما الموازنة بين المصالح فخلاف فقد نص العز بن عبد السلام أن هناك حالات يقدم فيها أصل النفس على الدين ، كسب الدين اذا خاف الهلاك (قال تعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان )، وأمر رسول الله عمارا أن يعود الى الشتم ان عادوا الى تعذيبه صيانةلنفسه عن الهلاك والضرر ،  ، وكجواز أكل الميتة والخنزير وشرب قسط من الخمر حال الجوع والعطش المؤدي للهلاك ، كما أن حقوق الله تعالى مبينية على المسامحة والمساهلة وحقوق العباد على التضييق في مراعاتها ، والموازنة بين المفاسد في حالة كورونا هي تعارض بين واجب  ( مختلف في وجوبه ومختلف في  وجوب أدائه في المسجد ) ومحرم قطعي وهو التسبب بغلبة الظن بالأذى للنفس عبر التقاط العدوى أو للغير عبر العدوى ، فهنا تكون الموازنة الحقة بين مفسدة ترك الواجب في صلاة الجماعة في المسجد (وهي مسألة خلافية في وجوبها )ومفسدة الاجتماع المؤدي الى إيذاء النفس والغير بالعدوى وهي مفسدة متفق على أنها حاصلة لا محالة زمن الوباء بغلبة الظن ، ولأن قتل النفس بالتسبب  حرام لحق الله فيه ( منع الانتحار ) وقتل الغير بالتسبب حرام ( لاجتماع حق الله فيه بتحريم القتل والوعيد عليه بالنار  وحق العبد فيه  بالقصاص  )  فهنا موازنة بين ما اجتمع فيه حق الله وحق العبد ( التسبب بالعدوى للغير وايذاء النفس بالتقاطها )وبين ما اجتمع فيه حق الله فقط ( صلاة الجماعة ) ، فيقدم ما اجتمع فيه حق الله وحق العبد ( وهو حظر التجمع )سدا لذريعة التسبب بالقتل والضرر للنفس والغير ) على ما كان حقا لله وله بدل في صلاة الجماعة في البيت ،وفي إقامة الجماعات عبر  التلفاز او المذياع وصلاتها في البيت مع امام موحد في البلد ،وبقياس الأولى فقد روى ابن عمر أن منادي رسول الله نادى الناس أن يصلوا في الرحال تجنبا لأذى المطر والبرد والوحل فأذن رسول الله بترك واجب الكفاية بصلاة الجماعة لضرر يسير هوالمطر والبرد فكيف بالوباء القاتل ؟ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وأعتذر من الإطالة والحمد لله رب العالمين