الدين العام.... هل من مبرر للقلق؟

 مشكلة المدیونیة لیست مشكلة محلیة، فالیوم تعاني العدید من اقتصادات العالم من نسب مدیونیة مرتفعة تزید عن اجمالي الناتج المحلي، حیث یشیر تقریر الدیون الذي أصدره البنك الدولي الى أن الدین العالمي وصل عام 2018 الى مستوى قیاسي یعادل حوالي 230 %من اجمالي الناتج، أما الدیون على الدول النامیة والاسواق الناشئة فقد وصلت النسبة الى 170 %من الناتج، وبزیادة قدرھا 54 نقطة مئویة مقارنة بعام 2010 ،وبلغ اجمالي الدین الخارجي على الدول منخفضة ومتوسطة الدخل عام 2018 أكثر من 8.7 تریلیون دولار، وھو بذلك یتجاوز مجموع صادرات ھذه الدول، أما على صعید منطقة الشرق الاوسط وشمال أفریقیا فتبلغ المدیونیة الخارجیة حوالي 321 ملیار دولار، وھي تعادل حوالي 94 %من الصادرات، وقد تمیز ھذا الاقلیم بتسجیل أسرع تراكم في أرصدة الدین الخارجي خلال عشر سنوات 2008-2018 بنسبة بلغت 7 ،%وخاصة جمھوریة مصر العربیة التي بلغت نسبة التراكم فیھا حوالي 15 ،%لذلك تركز معظم الجھات الدولیة على ضرورة .التعامل بحكمة وشفافیة مع ادارة الدیون تاریخیاً اكتسبت فكرة تمویل العجز من خلال الدیون شعبیة كبیرة أواسط القرن الماضي،خاصة مع ذروة صعود النظریة الكینزیة في الاقتصاد والترویج لفكرة تدخل الدولة باعتبار ذلك ضرورة اساسیة للنمو وتحسین حیاة المواطنین، الا انھ وحتى في ذلك الوقت ظھرت بعض الاراء التي لا تحبذ اللجوء غیر المبرر لھذا المصدر من التمویل، فمثلاً یؤكد عالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل جیمس بوكانان في كتابھ «المباديء العامة للدین العام» ان الاعتقاد بكون الدین الداخلي لیس عبئاً على المواطنین ھو اعتقاد خاطيء، وان الدین العام عبارة عن وسیلة تسمح بان تقوم الاجیال الحالیة بتمویل متطلباتھا الحیاتیة على حساب الاجیال القادمة. وبالرغم من ان وجھة النظر ھذه تحمل في طیاتھا جانباً من المصداقیة الا أنھ یجب ان لا یغیب عن بالنا ان الاستخدام الرشید والواعي للمدیونیة یمكن ان یشكل قاعدة لنھضة الاجیال القادمة ویوفر لھا ما لم یكن متوفراً وھذا لا یقتصر على البنیة التحتیة والمؤسسات المتطورة وانما یشمل ایضاً اعداد وتوفیر الفرص والمقومات اللوجستیة لتنمیة بشریة ذات مستوى متقدم مما ینعكس على .مختلف مكونات وشرائح المجتمع وصلت نسبة اجمالي الدین العام في الاردن نھایة عام 2019 الى ما یقارب 97 %من الناتج المحلي الاجمالي المقدر بالاسعار الجاریة، واذا استمر التصاعد في حجم الدین العام بنفس الوتیرة، ومع تواضع نسب النمو الاقتصادي فمن طباعة مع التعلیقات طباعة الدكتور محمد أبوحمور المتوقع ان نشھد ھذا العام بلوغ نسبة الدین العام نسبة 100 %من الناتج المحلي الاجمالي، أما على صعید خدمة الدین العام/موازنة فقد بلغت في نفس العام حوالي 8.2 ملیار دینار أي ما یعادل حوالي 9 %من الناتج المحلي الاجمالي، مقابل ما یقارب 8.1 ملیار دینار عام 2018 ،ویفسر ذلك بتضاعف أقساط الدین الخارجي، وزیادة مبلغ الفوائد باكثر من 100 ملیون دینار، ومن المؤشرات الاخرى التي لا بد من لفت الانتباه لھا نسبة خدمة الدین الى الایرادات المحلیة والتي تجاوزت 40 ،%وما یزید على 36 %من الایرادات العامة، أما نسبة الفوائد الى الایرادات المحلیة فقد بلغت حوالي 16 ،%وفیما یتعلق بخدمة الدین الخارجي /موازنة ومكفول فقد بلغت 7 %من الناتج المحلي الاجمالي، كما .%بلغت نسبة الدین الخارجي الى الاحتیاطیات الاجنبیة حوالي 70 ھذه بعض المؤشرات المتعلقة بالدین العام التي یرى بعض المحللین انھا تستدعي دق ناقوس الخطر، أما اخرون فیرون ان الاردن لا زال قادراً على خدمة دیونھ والقیام باعبائھا، وأن الفرصة لا زالت قائمة لتجاوز الصعوبات المترتبة على المدیونیة والانطلاق مجدداً في مسار النمو، وبغض النظر عن ما یسوقھ كل طرف من مبررات لصحة رأیھ، لا بد لنا ان نستذكر اولاً ان المدیونیة ھي نتاج السیاسات المالیة التي تؤدي الى العجز في الموازنة، وأن ما یجب ان نلتفت الیھ بدایة ھو حجم الانفاق الحكومي الذي تصاعد خلال السنوات الماضیة بشكل واضح، یقول الاقتصادي الشھیر میلتون فریدمان: «راقب شیئًا واحدًا وشیئاً واحدًا فقط: كم تنفق الحكومة، لأن ھذه ھي الضریبة الحقیقیة... إذا لم تدفع ثمنھا في شكل ضرائب محددة، فأنت تدفع ثمنھا بشكل غیر مباشر من خلال التضخم أو من خلال القروض، الشيء الذي یجب أن تراقبھ ھو ما تنفقھ الحكومة، والمشكلة الحقیقیة ھي خفض الإنفاق الحكومي، وإذا تم ذلك، فیمكنك .«التوقف عن القلق بشأن الدین تمیز عقدي الستینات والسبعینات من القرن الماضي بتوفر مصادر تمویل بفوائد متدنیة واجال سداد طویلة، وقد استطاع الاردن خلال تلك الفترة الاستفادة من الدیون ومساعدات الدول الشقیقة والصدیقة لانشاء وتطویر بنیة تحتیة متمیزة، بما في ذلك مؤسسات صحیة وتعلیمیة ذات مستوى مرموق خرجت كفاءات بشریة ذات انتاجیة مرتفعة ساھمت في نھضة العدید من الدول الشقیقة، اضافة الى مشاركة وتشجیع القطاع الخاص على الاستثمار في مشاریع ذات عوائد استثماریة، توفر فرص عمل وتساھم في التنمیة الاقتصادیة والاجتماعیة، ولكن مع تغیر الظروف والمستجدات واجھت المملكة في اواخر عقد الثمانینات أزمة اقتصادیة ومالیة شكلت المدیونیة أبرز مظاھرھا، وقد استطاع الاردن وعبر تعاونھ مع المؤسسات الدولیة ان یتجاوز ھذه الازمة وان ینھي برامج التصحیح في اواسط عام 2004 ،حیث تحسنت مختلف المؤشرات المالیة وتمت السیطرة على عجز الموازنة وتخفیض نسب المدیونیة الى .مستویات امنة والیوم نشھد من جدید جدلاً حول أضاع المالیة العامة وخاصة ما یتعلق بالعجز المزمن في الموازنة العامة والارتفاع المضطرد الذي شھدتھ المدیونیة العامة، حیث تضاعفت خلال السنوات العشر الاخیرة، بالرغم من انھ لا یوجد ما یشیر الى استحداث مشاریع بنیة تحتیة او مشاریع استثماریة تبرر ھذا الارتفاع، وبالرغم من أن الظروف الخارجیة كان لھا دور كبیر في تراكم المدیونیة الا انھ لا ینبغي ان نغفل دور بعض القرارات الاداریة التي ساھمت في ھذا الارتفاع، وعموماً فھذا الواقع ما ھو الا نتاج السیاسات المالیة خلال تلك السنوات، ونحن ھنا لسنا بصدد تقییم الساسات المالیة ومدى كفاءتھا خلال تلك الفترة الا ان المھم ھو التفكیر بكیفیة التعامل مع الواقع الحالي وبحث افضل السبل للتمكن من تحفیز الاقتصاد ورفع مستوى حیاة المواطنین وتقدیم الخدمات المناسبة لاحتیاجاتھم، فارتفاع مستوى الدین عادة ما یشكل كابحاً للنمو ویترافق باثار سلبیة على مختلف جوانب الحیاة الاقتصادیة والاجتماعیة والسیاسیة، وبالرغم من المخاطر التي تترافق مع الدین، الا ان التعامل بحكمة وموضوعیة ھو نقطة البدایة لبحث الامور اللاحقة بما في ذلك الاستخدام الكفؤ والمجدي للدیون، واسالیب الھیكلة التي تضمن تخفیض اعباء خدمتھا، والشفافیة والافصاح المطلوبین في ھذا الاطار،ونحن في الاردن نتوفر على واقع مشجع في ھذا المجال، على ان یتم كل ذلك في اطار .مؤسسي وتشریعي یتیح اتخاذ القرارات والاجراءات اللازمة بتوقیت مناسب یتطلب الفھم المتكامل لموضوع الدین العام ان ندرك بدایة ان الحكومة،ایاً كانت، تحتاج الى مصادر مالیة لاداء مھامھا بما في ذلك تغطیة نفقاتھا الجاریة والراسمالیة والعمل على تأمین الاستقرار السیاسي والاجتماعي، وعندما یكون من غیر الممكن تأمین ھذه المصادر محلیاً یتم اللجوء للاقتراض، وعند الحدیث عن موضوع الدین العام لا یكفي ان ناخذ في اعتبارنا الحجم الكلي للدین او نسبتھ من الناتج فقط بل لا بد لنا من الانتباه الى مجموعة من المؤشرات المتلعقة بالدین، بما في ذلك مصادر الدین ھل ھي داخلیة أم خارجیة، مع مراعاة الاثار المترتبة على ھذا المزیج على المستوى المحلي والخارجي، ونوع عملة الاقتراض، ثم طبیعة ھذه المصادر ھل ھي حكومات ومؤسسات دولیة أم قطاع خاص أجنبي، ایضاً ما ھي طبیعة الاعباء المترتبة على الدین ً سواء ما یتعلق بنسب الفائدة أو اي التزامات اخرى ذات طبیعة اقتصادیة او سیاسیة، أضافة لذلك من الضروري ان نلتفت الى اجال الدین ومواعید استحقاقھا لنتمكن من مواجھة تلك الاعباء بالشكل المناسب، ھذا من جانب المصادر ولكن الجانب الاھم الذي لا بد من مراعاتھ ھو جانب الاستخدامات، فاذا كانت ھذه الدیون لتسدید نفقات جاریة كالرواتب وغیرھا نعدھا لا بد من قرع ناقوس الخطر، أم لاقامة مشاریع استثماریة وبنى تحتیة تكون لھا اثار ایجابیة على النمو الاقتصادي وزیادة رفاه المواطنین، وتكوین قیمة مضافة للأقتصاد، وكما ھو واضح ھناك الكثیر من التفاصیل التي لا بد من توضیحھا ومناقشتھا تمھیداً للوصول الى تصور واضح حول الاسلوب المناسب للتعامل مع المدیونیة وادارة ملفھا بشكل مناسب وبما یعظم من اثارھا الایجابیة على الاقتصاد الوطني ویخفض مخاطرھا وما قد یترتب علیھا من اثار سلبیة في حال لم نحسن التعامل معھا، ولنا عودة .لبحث ھذه الجوانب بشكل تفصیلي لما تشكلھ من أھمیة للوطن والمواطن