الأزمة الغائبة في الأردن

اخبار البلد-

 
حياة المتقاعدين في الأردن، من أسوأ ما قد يعيشه المتقاعد، كان مدنيا، او عسكريا، إذ إن الخدمة الطويلة في وظيفة محددة، ثم الخروج منها، تضع المرء امام معاناة كبيرة.
كلما تعرفت على شخص، يبرق لك بإشارة غريبة، اذ نادرا ما يقدم نفسه كما هو اليوم، او وفقا لما يعمله، غالبا ما يقول لك انه وزير سابق، نائب سابق، مدرس سابق، عقيد سابق، لاعب كرة قدم سابق، مدير دائرة سابق.
كأنه يقول لك انه برغم تقاعده فهو غير قادر على التكيف مع حياته الجديدة، او الواقع الذي استجد عليه، فيعود بأثر رجعي الى ما كان عليه، ويواصل تعريف نفسه، بربط واقعه، بالماضي، وما كان يشغله من وظيفة، وفي التعريف أيضا مطالبة غير مفسرة لغيره، بمعاملته على ما كان سابقا، وهي مطالبة قد تبدو عادلة معنويا، ولكنها ليست منطقية في حياة ما بعد التقاعد، ووسط التطاحن ما بين المتقاعدين، والجيل الباحث عن وظيفة.
التقاعد في الأردن، كما في اغلب الدول العربية، قاتل، إذ إن اغلب المتقاعدين لا يخرجون برؤوس أموال، ولا يفتحون مشروعا شخصيا، بل ينخفض دخلهم، في فترة حساسة نفسيا، اذ بدلا من ان يعيش بشكل كريم، يتراجع دخله، ويصير بحاجة الى دعم مالي.
في حالات تكون التزاماته في ذروتها، وبين أيدينا آلاف الحالات التي تمت احالتها الى التقاعد بعد خدمة ثلاثين سنة، او حالات احيلت للتقاعد المبكر بعد ان توفر شرطه من حيث عدد اشتراكات الضمان، فخرج من وظيفته وهو في مطلع الخمسين، والتزامات الأبناء في الجامعات، او قروض المنازل، تخنق هؤلاء في عمر حساس جدا، وبيننا مئات آلاف المتقاعدين في الأردن الذين يعانون من ازمة يصح وصفها بالغائبة عن الرصد والتحليل.
لا يوجد افق للمتقاعد في الأردن، فماذا سيفعل، خصوصا، اذا نقص دخله، وانخفضت سلطته او وجاهته الاجتماعية بسبب موقعه القديم، حين كان يأمر وينهى، بل ان المتقاعدين يتسببون اجتماعيا بمشاكل كثيرة في البيوت، حين يندمجون فجأة مع واقع لم يكونوا مطلين على تفاصيله الصغيرة، فيشتبكون مع اهل البيت على مستوى الغرفة المضاءة طوال النهار، دون سبب، بعد ان هذا هو الواقع الذي لم يره، وصولا الى الإحساس بالغضب والعصبية، وقلة الخيارات المتاحة على صعيد الدخل.
بعضهم يلجأ للعمل في وظائف كان مستحيلا ان يقبلها، لكنها الحياة المرة، فلا يكون غريبا ان تجد شخصا ما، وإذ به اليوم، سائق سيارة عمومية، او يعمل في مهن اضطر اليها حتى يعيش، وحتى يشعر انه منتج، فوق حاجته الى المال، في ظل تخلي الأبناء عن واجباتهم، بذرائع مختلفة، فوق تفشي قلة المسؤولية، وغياب الضمانات الاجتماعية اللائقة.
الأزمة في الأردن، ليست محصورة به، كما أشرت، اذ انها عربية، لكن هنا يمكن القول ان الحياة ما بعد التقاعد، مشكلة كبرى، واذا كنا في الأردن نعاني من مشكلة بطالة الشباب، الا اننا نعاني في موازاتها من مشكلة اكثر مرارة وصعوبة، مشكلة مئات آلاف المتقاعدين، الذين يعيشون ظرفا صعبا، يزيد من حدته العامل الاجتماعي والنفسي، الذي يجعل المرء غير قادر على الاندماج مع الحياة الجديدة، او التكيف معها، بل ويواصل استدراج الماضي من غرفه القديمة، فيقول لك انه سفير سابق، او معلم سابق، او سائس خيل سابق.
نحن اكثر مجتمع في العالم العربي، نستعمل مصطلح "سابق ” في التعريف عن انفسنا وفقا لواقعنا الجديد، وحيثما وليت وجهك هناك شخص ما، يقول لك انه كان سابقا كذا وكذا، وهذا يؤشر على امرين، أولهما عدم وجود افق لمئات الآلاف الذين يخرجون من أعمالهم وما تزال لديهم القدرة على العطاء والعمل، إضافة الى تضخم الأنا، وتورمها، بحيث تكون كثرة منفصلة عن الواقع، وتعيش في الماضي، بدلا من صناعة حياة جديدة، وهي صناعة غير متوفرة في الأردن، على المستوى الاقتصادي، والاجتماعي.
قد تبدو مطالبتنا لمساعدة المتقاعدين، مجرد ترف، امام وضع الأجيال التي تخرجت للتو، لكننا نعيش ازمة مركبة، تتنزل على الكل، خريجين، وعاملين، ومتقاعدين، وهؤلاء معا، هم المجتمع الذي ننتقد ازماته وسلوكياته، ولا نحاول تفكيكها.