كلاسيكيات : خواطر درامية عن فيلم مع الايام...

أخبار البلد - بقلم فراس الور


منذ سنة 1958 و مع مرور الأيام لم يفقد هذا العمل رونقه الإجتماعي المميز و نكهته الدرامية البراقة و الآسرة، فالذي يشاهده سيشعر بأنه تم انتاجه بالإمس و السنين التي مرت عليه عبارة عن طرفة عين دامت لثانية في عهدة زمان لم يرسم علامات الشيب على شعر الفنانة ماجده (عفاف) به (مع حفظ الألقاب)...و لا على رأس عماد حمدي (عادل) او علويه جميل (منيرة هانم)...و كأن كاميرة احمد ضياء الدين سجلت في سنة 58 جزاءا من مجتمع و شوارع و بيوت و ستوديوهات القاهرة و حصنتها من الشيخوخة في فيلم يُخَلِدْ شباب هاؤلاء الابطال المميزون...و غمستهم برواية حالمة من وحي خياله تحبس انفاس المشاهد منذ مشاهدها الأولى...و تأخذه برحلة مع احداث قد تحدث مع اية إمرأة لديها اولاد في مجتمعنا العربي الذي تحكمه فسوة التقاليد الجامده...و تنتهي بمشاهد مثيرة للجدل تنتصر بها قدسية الأمومة على الرغبات العاطفية الملتهبة للأم التي تظلمها تراجيدية لم تكن بحسبانها إطلاقا...و تبقى طيلة مشاهد الفيلم في صراع بين عاطفتها التي تتعطش لحضن رجل يحبها و يريدها زوجة له و عاطفتها كأم على اولادها...

فيلمنا قيد النقاش اسمه مع الايام و هو من الأفلام الإجتماعية الرومنسية بإمتياز، تم عرضه في العاشر من شهر اذار سنة 1958 في سينما قصر النيل، و هو قصة و سيناريو و حوار الكاتب يوسف جوهر، بالإضافة الى الأبطال السالف ذكرهم ضم هذا العمل المميز وداد حمدي (فاطمة) و احمد علام (طلعت) و سناء جميل (احسان) مع لفيف لامع من فنانين القاهرة، في مشاهده الإفتتاحية نرى عادل يقود سيارته و هو متعب من طارئ صحي اصابه على الطريق، فيدخل قسم الطوارئ بمستشفى يجده في طريقه، ليتكتشف ان الطبيب المناوب هو إمرأة، فيرفض ان تكشف عليه في بادئ الأمر إلا ان التعب الكبير الذي احس به اجبره على ذلك، فنعرف من هذا الموقف كم هذه الشخصية تقليدية ذات فكر غير معاصر و محافظة بطبعها، و بعد تشخيص الحالة تُجْرَى له عملية مفاجئة و لكن ناجحة على يد الجراح طلعت، و نتعرف منذ بداية الفيلم على عفاف أكثر حيث تكون حسنة السير و السلوك ارملة جراح و تعيش مع حماتها و طفلين صغيرين من زوجها المتوفي، تكون عفاف مخلصة لعملها حيث كثيرا ما تتأخر في عملها على غرار زوجها الذي شهد له زملاءها في بدء مشاهد هذا العمل الشيق، و لكن مما يضايق حماتها التي تكون تقليدية جدا بنظرتها للأمور و للمرأة حيث تعرب لعفاف عن عدم رضاها من تأخيرها في ورديات الليل.

مع مرور مشاهد الفليم نعلم عن عفاف و حماتها الكثير، فوفاة زوج عفاف و هي شابة بعد تسبب بالحزن الشديد لها و لحماتها، مما جعلهما في دوامة روتين و حِداد خانقة، فعفاف تلبس اللباس الأسود بإستمرار بسبب ما ألَمً بها، مما يجعل حياتها تتمحور حول بيتها و اولادها و عملها فقط، و حماتها تعيش بنفس دوامة الحزن بسبب حزنها الشديد على ابنها...بل نراها تحاول التأثير و الضغط على عفاف لتبقيها ضمن دوامة الحزن هذه، فنراها في الفيلم حتى توجه لها الإنتقادات الشديدة بسبب تأخرها بالعمل ليلاً كطبيب فلا تفهم كيف لها ان تتأخر بالليل و زملائها الرجال يستطيعون الإنابة عنها...فلا تتفهم انه من الممكن ان تكون زوجة ابنها طبيبة ناجحة تحب عملها و تستطيع الإخلاص له، و مع مرور الأيام نشعر كم تحاول دفن سعادة عفاف معها لكي تعيش معها بنفس الشجون القاصي التي تختبره...

يجد الحب طريقه الى القلوب مرة ثانية...فالحياة من دون مشاعر و احاسيس شبه مستحيلة و غير ممكنة خصوصا و ان عفاف مازالت بصحتها و عافيتها، شابة تتملكها رغبات و حاجات شأنها شأن اي إمرأة في سنها، فتكتشف ان قلبها لم يمت بعد وانه قادر على النطق بلغة العشق بالرغم من دموعها و الآلآم التي غرق بها لسنين طويله...قلب دفن قبل ان يستمتع بما قد تقدمه له الحياة من حب و لحظات سعادة و استقرار، فمع مكوث عادل بالمستشفى للتعافي من عمليته و مع زياراتها المتكرر له لتطمأن عليه نبض قلبها بالغرام من جديد، و بدأ يتأثر بإطلالة عادل الشابة و بشخصيته الإنيقة...فهو رجل متزن الشخصية مثقف و مسؤل بشركة مرموقة و ذو احوال مستقرة، و بالرغم من هذه المشاعر الجديدة بقلبها لم نرى اية مبادرة من عادل حقيقة تجاهها الا حينما اصابتها وعكة صحية، فانهارت من الإرهاق و التعب و هي على ادراج بيتها، فسمع عادل مع صديق له صغير بالسن يسكن المستشفى بتعب عفاف، فأرسل لها باقة جميله من الورد الى بيتها، و هنا شعرت عفاف و منيرة حماتهعا بإهتمام حقيقي من عادل، نرى ان هذا الإهتمام يأسر قلب عفاف بينما ترفضه منيرة تمام الرفض،

تتصاعد الأحداث هنا بشكل ملحوظ فنرى تغيرات جذرية بحياة عفاف، فنراها تبدأ بالإهتمام بمظهرها الخارجي و لكن لتلاقي رفض من منيرة في بادئ الأمر، و نراها تقبل دعوات عادل للخروج معه، فاهتمام عادل بها كان بمثابة شمس منيرة اشرقت بحياتها المعتمة و الجافة، فادركت و هي برفقة عادل كم كانت بحاجة لدفئ رجل بحياتها و كم أخذتها تربية الآولاد عن الإهتمام بحياتها الخاصة، فخلعت الأسود عنها وسط اعتراض حماتها الشديد و التي كانت تريدها ان تبقى مدفونه معها بحزنها على ابنها، ففي مشهد من المشاهد نراها تصحو من نومها و تظمأن على ولديها انهما نائمين، و توصي الخادمة فاطمة بالإهتمام بهما ريثما تعود من مشوارها مع عادل، و لكن سرعان ما استيقظا الأولاد و لحقوا بها قبل ان تخرج من المنزل و طلبوا منها ان ترافقهم بفسحة معهم، فانهمر دمع عفاف و بكت حينما منعوها من الخروج مع عادل، و توضح هذا المشهد الصراع الذي يدور بداخلها بين رغباتها الجامحة لتكون مع عادل و مسؤلية اولادها التي ارهقتها جدا...

تغضب حماتها من علاقتها الجديدة...و يتبلور صراع آخر في هذه الرواية الممتعة، فيتواجه عادل مع رفض من اولاد عفاف له بأكثر من مناسبة، فعفاف كانت قد اخبرتهم ان والدهم سافر و لم يمت بسبب سنهم الصغير، فلذلك كانوا بانتظار عودته بفارغ الصبر، لذلك حينما قدمت عفاف عادل على انه والدهم رفضوه تمام الرفض بحياتهم، و عند هذه النقطة نرى الحب في قلب عال يأخذ بعدا انانيا تسبب بمزيد من الألم لعفاف، فعادل احب عفاف كإمرأة و لم يتقبل رفض اولادها له بصدر رحب، فحاول انتزاعها من اولادها بكل جرأة لئيمة غير مبالي بما قد يحدث لها بسبب هذه الخطوة، فعندما قابل زملاء له بالعمل و اخبروه بأنهم نقلوا من القاهرة الى مكان بعيد عنها اعجبته الفكرة، فطلب نقله بالعمل مع زملائه و حاول اجبار عفاف على السفر معه و ترك اولادها عند حماته، و بالرغم من معرفته بأن منيرة كانت قد رفعت دعوى قضائية بضم اولاد عفاف لها بسبب علاقتها الجديدة لم يابه بهذا الأمر...فلم يفكر الا برغباته العاطفية تجاه عفاف و لم يفكر بها إلا كإمرأة بحياته، لم يفكر بأن عفاف ام و قراره ادخل جحيم من العذاب الى حياتها...فاصبحت ممزقة بين حبها له و امومتها التي كانت تصرخ بقلبها في كل لحظة خوفا على مستقبل اولادها بعلاقتها الجديدة...و بالرغم من ان عفاف كسبت قضية ضد حماتها الا ان عادل اجبرها على الذهاب الى حماتها لتودع اولادها عندها...

رفضت منيرة طلب عفاف في بادئ الأمر، فبالسنبة اليها هذا تقصير من ام تجاه اولادها، فَـتُجْـبَـرُ عفاف على طلب النصح من صديق العائلة و زميلها الدكتور طلعت، فيتفهم طلعت الصراع الذي يدور بقلبها، و يذهب لمقابلة منيرة ليقنعها بأنها على خطئ بمنع عفاف عن علاقتها بعادل، و ينجح بعد جهد جهيد، و هنا عند احتدام هذه الصراعات بين ابطال العمل يتعملق المخرج بتقديم الصارع بداخل بطلة العمل...عفاف الشابة التي وجدت نفسها اخيرا بين يداي رجل شاب اشبعها بعاطفة كانت ظمأة لها منذ زمن و اعاد لها انوثتها كإمراة بعد سنين طويلة من الحرمان...و بين عفاف كأم تنتزع صرخات اولادها لها حلمها من بين يديها و الذي تعيشه بحضن عادل، فما يميز هذا الفيلم هو انه اختتم مشهده الأخير بالذروة الدرامية حيث ارى انها من اروع ما قدمت السينما المصرية في زمن الفن الجميل...فلم تأتي النهاية الا حينما خَيًرَ عادل عفاف بين باللحاق به الى القطار ليسافرا معا الى مقر عمله الجديد و بين بقائها مع اولادها، و حينها نراها تسرع الى عربة القطار بين عشرات المسافرين الذي نرى بعضهم يذرفون دموع الوداع المُرًةِ على فراق اعزاء لهم...و حيث ينتظرها عشيقها الأناني بفارغ الصبر، و تنجح بالوصول اليه قبل تحرك القطار ببضعة دقائق فقط، و لكن سرعان ما نرى فاطمة و بيديها اولادها يصرخون اليها بالمحطة لوداعها ... فكانت القشة التي كسرت ظهر الجمل...فلم تستطع عفاف ترك فلذات اكبادها يصرخون اليها بالوداع...فتغلب بقلبها عاطفة الأمومة و تترك عادل بعربة القطار و تعود الى حيث اولادها...لينتهي هذا الفيلم نهاية كرسالة للمجتمع، بأن الأمومة هي اقوى رسائل الحب بالعالم...فعادل كان حبه غير ناضج لعفاف...و لم يستطع التضحية الكاملة ليسعها مع و اولادها،

لفت انتباهي ان هذه الرواية من الممكن ان تحدث مع اي إمراة بوضع بطلتها، و لعلها غير غريبة عن واقعنا الإنساني المعاش، دنيتنا فيها حياة و موت و قد تجد اي إمرأة نفسها تتواجه مع حادثة كالتي رأيناها بالفيلم، و بوجود اولاد قد ترى نفسها امام مسؤلية ضخمة تجعلها تقف الى جانبهم و تخلص لتربيتهم...و هذا خيار قد يتطلب تضحية كبرى لأن الإلتزام الأُسَرِيْ سيتطلب منها ان تترك حياتها الشخصية و العاطفية لتهتم بأولادها فهم لهم حق عليها، و نظرة الفيلم لدخول رجل غريب لحياة عفاف لعلها تضفي بُعْد واقعي على هذا الشأن اذ من الصعب ان يتبنى و يحب رجل غريب اولاد غيره...من الصعب ان يتقبل بأنه مجبور بهم و بحاجتهم مما قد يدفع اي ام لها اولاد ان ترفض دخول رجل غريب ليحاتها بكل سهولة خوفا على اولادها,,,من الصعب ان تنفصل اي ام عن اولادها بذه السهولة، فهم تكونوا بأحشائها مدة تسعة اشهر و ولدوا بين يديها و هي التي تغذيهم بيديها و ترضعهم من صدرها و تسهر عليهم و على تربيتهم و يكبروا يوما بعد يوم امام عينيها الى ان يصبحوا بالغين و راشدين بالمجتمع...حتماً ستجد اي ام صعوبة بالغة بوجود كل هذه الروابط الطبيعية ان تستغني عن اولادها حتى و إن جد امر عاطفي عليها...و السؤال الذي يطرح ذاته هنا اذا ارتبطت الأم بزواج و ابتدأ هذا الرجل الغريب بالإهمال باولادها و الإساءة لهم، و ان تربوا مع رجل لم يحسن معاملتهم لن يستطيعة مسامحة والدتهم بسهولة، فابسط سؤال سيقوموا بتوجيهه لها لماذا لم تستطيع التضحية لأجلهم و قامت بالسماح لرجل غريب بالدخول لحياتهم، امور كثيرة يجب ان تفكر بها اي إمرأة بموقف عفاف فالأسرة ليست لعبة لأهوائنا خصوصا و ان كان هنالك اشخاص آخرين قد يتأثروا بقرارتنا،