أبناؤنا التائهون في العالم الافتراضي


ندرك تماما انه لم يعد من الممكن اليوم إبقاء أبنائنا بعيدا عن استخدام الأجهزة الذكية، والتطبيقات الكثيرة التي يطلق العشرات منها يوميا، فهذا أمر صار واقعا مفروضًا علينا جميعا وعزل أبنائنا عنه يعني عزلهم عن الواقع وهذا بالتأكيد شيء مستحيل، وفي غير مصلحتهم أيضا، فهم بالضرورة يحتاجون الي مجاراة اشتراطات العصر وتغيراته.
لكن الكارثة، هي أن انشغالهم بهذه التطبيقات بات أمرا يصعب السيطرة عليه، فهم أصبحوا غارقين في الانصراف إلى هذا العالم الافتراضي ومنسلخين عن مجتمعهم الفعلي بشكل شبه كلي.
يكاد لا يمر يوم، دون أن أسمع شكوى من أم أو أب من عدم مقدرتهم على ضبط فترات استخدام أبنائهم لهذه التطبيقات، أو بسبب القلق الذي يعتريهم من المحتويات غير الآمنة فيها، لا سيما مع تكرار حوادث الأطفال التي أودت بحياة البعض منهم جراء محاولتهم تقليد ما يشاهدونه من العاب او تحديات في تلك التطبيقات الكثيرة، والمنتجة بشكل يفهم تماما سيكولوجية الطفل ونزوعه للتجريب وتحدي الذات والتمرد على القيود وعلى تعليمات الكبار.
لكن الأخطر، أن المشكلة لا تنحصر فقط في الألعاب التي تظهر مخاطرها بوضوح لاحتوائها على عنف شديد او على تحديات يمكن أن تهدد سلامة الأطفال جسديا، ولا حتى في المخاطر البصرية والعصبية نتيجة إطالة التعرض لهذه الأجهزة والألعاب الصاخبة. فهناك مخاطر أخرى عديدة ربما لا يعيها كثيرون.
هذه الألعاب وبما بنيت عليه من أساليب قادرة على الاستحواذ تماما على عقلية الطفل ومشاعره واهتمامه، تخلق لديه مع الوقت فهما وتصورا خاطئا عن مفاهيم أساسية في الحياة، منها مثلا ان يصبح اسمى أهدافه في الحياة هو تحقيق انتصار على منافسه في اللعبة والذي قد يكون شخصا من ضمن دائرة معارفه او من خارجها واحيانا يكون شخصا وهميا، وبالتالي فإن مفهوم الهدف والاجتهاد من أجل تحقيقه ومسألة المنافسة أيضا جميعها مفاهيم غائبة تماما لصالح انتصارات وهمية يكرس الطفل كل طاقاته لإحرازها.
وما يزيد الأمر تعقيدا، هو أن الطفل الذي يحاول والداه إبقاءه بعيدا عن هذا العالم، أو توعيته لما ينطوي عليه من مخاطر، يجد نفسه في كثير من الأحيان عرضة للتنمر والاقصاء من قبل اقرانه في الصف او في العائلة الواسعة، الذين يتبارون في الحديث عن مهاراتهم العالية في خوض غمار التطبيقات الجديدة، أو عما وصلوا اليه من مراحل متقدمة في الألعاب، أو عن آخر انتاجاتهم من فيديوهات تيتكوك وغيرها، فيعود محملا بمشاعر الاستياء تجاه ابويه اللذين يصبحان في نظره مسؤولين عن نبذه وظهوره بمظهر المتخلف عن الركب.
الأمر بالتأكيد ليس سهلا، ولكن صعوبة السيطرة عليه ليست مبررا أيضا لتخلي كثير من الآباء عن مسؤوليتهم في هذا الصدد، على الوالدين ان يبحثوا دائما عن خلق بدائل جاذبة لأبنائهم، والبحث عن جوانب التميز لديهم، والعمل على تنميتها وتطويرها، فهذا سيساعد كثيرا على سحب الطفل من الانشغال الكلي في العالم الافتراضي وعودته ولو جزئيا إلى الواقع الذي يمكن أن يكسبه جوانب أكثر فائدة.
لكن، وكي لا نحمل الآباء والأمهات وحدهم المسؤولية كاملة، خصوصا مع علمنا بأن أي نشاط سيحاول الآباء إدراج أبنائهم به سيكون في الغالب مكلفا، فالأنشطة والفعاليات معظمها وللأسف الشديد غير مجانية، وبالتأكيد ليست كل العائلات قادرة على تحمل مثل هذه التكاليف.
لذلك، فإنه من الضروري أن تتحمل مدارسنا اليوم مسؤوليتها بأمانة عن سلامة بنية أبنائنا النفسية والقيمية قبل الجسدية، وأن تتجه بشكل جاد وواع إلى تعزيز الأنشطة المتنوعة بفعالية، لتكون سبيلا لأطفالنا لتنمية قدراتهم وتعزيز ذواتهم، كي لا نجد أنفسنا في الغد القريب أمام أجيال تائهة، غير منتمية، ومفرغة من اي قيمة او هدف.