في العديد من استطلاعات الرأي التي أجريت في الأردن مؤخرا، وأبرزها ما قام به مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، سواء الاستطلاعات الدورية أو السنوية التي تقيس مؤشرات مرتبطة بثقة الأفراد بالمؤسسات، يتبين أن مستوى الثقة في تراجع دائم بمعظم المؤسسات ولكن بدرجات متفاوتة، إلا هنا فالقصة ليست جديدة، فمنذ عقود وهذه الثقة تأخذ منحى تراجعيا يعكس الفجوة بين الخطاب المعلن وبين المنفذ على الأرض، ومع استمرار الوعود وضعف القدرة على التنفيذ تعمقت الفجوة.
ضمن هذا السياق يمكن تفسير عدم التفاعل الجماهيري مع الإعلانات الحكومية المتفائلة حيال الأوضاع العامة، سواء ما ارتبط منها بسوق العمل أو الاستثمارات وصولا إلى فواتير الكهرباء التي يصر المواطنون انها ارتفعت بسبب زيادة في الأسعار وليس بسبب زيادة غير محسوبة في الاستهلاك.
ولعل الأخطر في الاستطلاعات الأخيرة حول موضوع الثقة هو المرتبط بأن افراد المجتمع لا يثقون ببعضهم البعض، فوفقا لتلك الاستطلاعات فإن أكثر من 95 في المائة من المواطنين لا يثقون بجوارهم الجغرافي، ولا يثقون بالجار القريب، وتنحصر ثقتهم بعدد محدود جدا من أفراد العائلة المقربة جدا، فماذا يعني هذا؟ يعني ان ضعف الثقة لم يعد ظاهرة مؤسسية محصورة في اطار علاقات الحكومة بالمواطن، بل تسلل إلى المجتمع الذي يتعرض لكافة أنواع الضخ الإعلامي والتدفق المعلوماتي لدرجة أن الثقة بين أفراده تأثرت سلبيا. فانعدام الثقة بالمحيط الذي نتحرك فيه يعني اللجوء إلى الحلول الفردية لتجاوز المشاكل التي تعترضنا، وهذا يرفع من كلف تلك الحلول ولا يقود إلى مراكمة أي نوع من العمل الجماعي المنتج والمنظم، وهذا يفسر ضعف العمل المجتمعي ومؤسساته وإلى حد ما ضعف المشاركة السياسية، فالأخيرة تحتاج إلى الحد الأدنى من الثقة بمن يقودون ذلك العمل، وهذا غير متوافر ضمن الديناميكية الحالية.
هذا الاضمحلال في منسوب الثقة وعلى كافة المستويات يعني ان كلفة المعاملات وتنفيذها ستصبح أعلى، كذلك يعني هذا أن هناك حاجة لكافة أشكال التنظيم والرقابة وتعقيد البيئة التشريعية التي تحكم تنظيم العلاقات، ويصبح التعقيد الإداري والتشريعي مطلبا من تلك الفئات غير الواثقة بالاطار القائم على الرغم ان الفئات التي تطالب بذلك يمكن ان تعاني من تلك التعقيدات في مراحل لاحقة.
العديد من الكتب والمقالات العلمية كتبت حول ما يمكن ان يوصف برأس المال الاجتماعي ودرجات الثقة داخل المجتمعات ودورها في تحسين الانتاجية وصيرورة الأعمال، ولكن من الواضح اننا بعيدون كل البعد عن ذلك، وفي تحليلاتنا الاقتصادية تستمر المراوحة في الحديث عن تحدياتنا الاقتصادية بصورة تقليدية لا تتناول الابعاد غير المرئية في إدارة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وما يترتب عليها من كلف وتعقيدات إضافية لا داعي لها.
لا بديل عن تجديد الخطاب وتعزيز تواصل الاتصال المباشر وتوفير البيانات والمعلومات بأساليب سهلة وفي كل الاتجاهات، فالثقة يجب ان تسبقها المعرفة ومراكمتها، وما فقد عبر سنوات يحتاج الى سنوات كذلك لاستعادته، ولعل الأهم خلال هذه المرحلة هو وقف التراجع في منسوب الثقة على كافة المستويات لأن استمرار هذا التوجه يعني المزيد من التأكل لما تبقى من رصيد، وهناك حاجة لصياغة توافقات حول مسائل بسيطة تبدأ من نظافة الحي وتنتهي بالعمل السياسي المنظم، المهم استعادة روح العمل الجماعي وتشكيل مجاميع تتبنى قضايا مشتركة تخرج عن نطاق الفردية وتبدأ ببث شيء من الثقة