"صفقة القرن".. الأخطر ما يجري تحت الطاولة

اخبار البلد - نضال منصور


بالبيان الصادر عن وزراء الخارجية العرب بعد اجتماعهم في الجامعة العربية بالقاهرة، تعتقد القيادة الفلسطينية، وكذا الأمر الحكومة الأردنية أنها حققت نصرا سياسيا ودبلوماسيا بتفادي الانقسام العربي من "صفقة القرن"، والاستمرار في موقف عربي موحد علنيا، وتكرس ذات الأمر بعد اجتماع منظمة التعاون الإسلامي في مدينة جدة بالسعودية.


أعاد بيان الجامعة العربية من القاهرة إنتاج الرؤية العربية للسلام في وقت سادت مخاوف بخروج دول عن هذا الاجتماع، بعد تسريبات أميركية عن تأييد زعماء عرب لـ "صفقة القرن".


رغم حضور الإمارات والبحرين وسلطنة عُمان لاحتفالية إطلاق خطة السلام الأميركية أو ما يُسمى "صفقة القرن"، ورغم صدور بيانات ترحيب عربية بالخطة والجهود الأمريكية؛ إلا أن قمة وزراء الخارجية العرب جاءت مُغايرة وأكدت رفضها للصفقة، وعدم التعاطي معها، أو التعاون مع الإدارة الأميركية لتنفيذها.

بيان الاجتماع كان واضحا بالتأكيد على مركزية القضية الفلسطينية للأمة العربية، وعلى الهوية العربية للقدس الشرقية، وعلى حق دولة فلسطين بالسيادة على كافة أراضيها المحتلة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، ومجالها الجوي والبحري، ومواردها الطبيعية، وحدودها مع دول الجوار.

تمَسّكُ العرب بالثوابت، وتحذيرهم لإسرائيل من لجوئها للقوة لتنفيذ بنود الصفقة، لا يمكن فهمه وتفسيره مع التماهي المستمر مع السياسيات الأميركية، والاندفاع المُلاحظ للتطبيع مع إسرائيل خلال ورشة البحرين الاقتصادية التي وصفت بأنها توطئة لـ"صفقة القرن"؛ ولهذا فإن الأخطر ليس ما تراه أو تسمعه من الحكومات العربية؛ بل بالصفقات التي قد تجري من تحت الطاولة ويُفاجئ بها المواطن العربي.

إدارتا ترامب ونتانياهو تدفعان الأردن ليلعب دور الشرطي في الدولة الفلسطينية المزعومة

فمن بين الأسئلة التي تثير القلق مثلا، هل يمكن للإمارات والبحرين أن تحضرا إطلاق الخطة الأميركية بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو دون إخطار السعودية أو أضعف الإيمان استئذانها.

وكيف يمكن تفسير اجتماع رئيس مجلس السيادي السوداني الانتقالي الفريق عبد الفتاح البرهان مع نتانياهو بعد أيام من اجتماع وزراء الخارجية العرب ولاءاتهم المتعددة، إلا في سياق أن اللجوء للبوابة الإسرائيلية إجباري لفتح الأبواب الموصدة إلى أميركا؟

بيان الجامعة العربية لا يمكن التقليل من أهميته في وقت الاندفاع العربي نحو التطبيع مع إسرائيل؛ لكن لا أوافق وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي على قوله "حصلت من الجامعة العربية على دعم لمواجهة خطة السلام"، فالكلام وبيانات التنديد لن توقف السياسات الإسرائيلية، ولن تمنع الضرر الواقع على الشعب الفلسطيني.

"صفقة القرن" لن تجلب السلام إلى الشرق الأوسط، ولن تُنهي الصراع العربي الإسرائيلي، هذا الموقف ليس ما قوله الشارع العربي للتعبير عن غضبهم، وإنما تتعالى الأصوات الرافضة لها دوليا، وحتى في إسرائيل نفسها، يرى 61 بالمئة أن خطة السلام الأميركية التي أعلن عنها ترامب لن تحقق السلام وفقاستطلاع للرأيأجراه معهد "كنتار" ونشرت نتائجه قناة "كان" العبرية.

يوسي بيليننائب وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق اعتبر أن صفقة القرن مصيرها الفشل رغم وعود ترامب أن خطته ستؤدي لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

بيلين في مقال نشره بصحيفة "إسرائيل اليوم" قال "إن خطة ترامب ليست لإبرام سلام فلسطيني إسرائيلي، وليست الفرصة الأخيرة للتسوية بين الشعبين، فضم أجزاء من الضفة الغربية دون توافق مع الفلسطينيين انتهاك فاضح للاتفاق المرحلي بين الجانبين عام 1995، وللقانون الدولي".

القراءة المُتمعنة لتفاصيل خطة السلام الأميركية تقود إلى قناعة مفادها أن "صفقة القرن" تهتم فقط بأمن إسرائيل، وبالتطبيع الاقتصادي الإقليمي، وبإنكار ثابت لقضية اللاجئين وحق العودة، وتجاهل لأي سيادة فلسطينية على القدس، أو أي دور أردني لرعاية المقدسات فيها.

في الخطة التي حملت عنوان "من السلام إلى الازدهار" تُريد إدارتا ترامب ونتانياهو دفع الأردن ليلعب دور الشرطي في الدولة الفلسطينية المزعومة المُسند له حراسة أمن إسرائيل، وفي التفاصيل الكثيرة يجري الحديث بشكل مُمل ومكرر عن التعاون لمكافحة الإرهاب والتطرف.

وعودٌ بالرفاه الاقتصادي للفلسطينيين، وبفرص اقتصادية إيجابية للأردن تسردها الوثيقة الأميركية، بدءا من بناء طرق تمتد للمعابر الحدودية، إلى إنشاء هيئة مُشتركة لتطوير الساحة في القدس، ومنطقة للتجارة الحرة بين فلسطين والأردن، واقتراح استخدام "دولة فلسطين" لميناء العقبة، وبناء نظام مواصلات بمساعدة عمّان يسمح بتدفق سهل للبضائع، إلى الإشارة لما يمكن أن يلعبه الأردن في تقديم المساعدات في بناء النظام القانوني، وتطوير القطاع الطبي والتعليمي والخدمات البلدية.

في كل ما قرأته من ترجمات لنصوص "صفقة القرن" لا يوجد ما يدل إلى إمكانية بناء دولة فلسطينية ذات سيادة، فهي منزوعة السلاح، ورجال الشرطة لحفظ النظام العام وحماية إسرائيل، ولا تملك ولاية على حدود أو مجال جوي أو بحري، وهي في أحسن الأحوال سترفع علما على "حكم ذاتي" هزيل.

أكثر من ذلك فإن الرؤية الأميركية تتلاعب بالحقائق وتقدم معلومات مخادعة عن أن الصراع العربي الإسرائيلي تسبب في مشكلة لاجئين فلسطينية يهودية على حد سواء، وأن اللاجئين الفلسطينيين عوملوا على مدار 70 عاما كبيادق على رقعة الشطرنج في الشرق الأوسط، وقدمت لهم وعود فارغة، والأغرب أنها تضع قضيتهم بالتساوي في مواجهة قضية طرد اليهود من الأراضي العربية بعد فترة وجيزة من قيام دولة إسرائيل.

الأمر الواضح والراسخ أن الخطة تحسم دون أي مواربة بأنه لا يمكن عودة أو استيعاب أي لاجئ في إسرائيل، وأن الخيارات المتاحة استيعاب بعضهم في دولة فلسطين دون تداعيات أمنية على إسرائيل، أو اندماجهم في البلدان المضيفة، أو قبول إعادة توطين مالا يزيد عن 50 ألف في دول منظمة التعاون الإسلامي.

في نهاية المطاف فإن الخطة الأميركية كُتبت لجلب المنافع لإسرائيل، فهي ترحب بزيارة مليار ونص المليار مسلم لزيارة الأماكن المقدسة، وهذا منجم من الذهب للحكومة الإسرائيلية، هذا عدا عن تقديم الخطة كخارطة طريق لتحويل المنطقة لمركز إقليمي للتجارة على غرار سنغافورة، وإطلاق وعود بتشييد سكة حديد إقليمية تربط إسرائيل وفلسطين بمجلس التعاون الخليجي.

اللاجئون الفلسطينيون عوملوا كبيادق على رقعة الشطرنج وقُدمت لهم وعود فارغة

تعامل الرئيس ترامب مع القضية الفلسطينية باعتبارها صفقة ليس أكثر من ذلك، وتنبه لتفاصيل كثيرة متعلقة بالسياحة، والتجارة، وطرق النقل، ولكنه أغمض عينيه متعمدا عن معاناة الفلسطينيين لسبعين عاما، وتجاهل حقوقهم المشروعة تماما، ولم يعترف أبدا أن إسرائيل دولة محتلة، بل قدم لهم هدايا مجانية تُتيح لهم ضم المستوطنات وغور الأردن؛ رغم معرفته أنها تعارض كل قرارات الشرعية الدولية.

انتهى الترقب والانتظار لإعلان صفقة القرن، والآن الجميع ينتظر تداعياتها والإجراءات التي ستتبعها، نتانياهو يسابق الزمن لضم المستوطنات والغور لتكون ورقة اقتراع رابحة في صندوق الانتخابات الإسرائيلية، والرهانات على تغيير درامي قد تفرزه الانتخابات ليس أكثر من وهم، فالقوى السياسية الفاعلة في تل أبيب الآن تتنافس بينها على من يستطيع أن يتجاوز أكثر على حقوق الفلسطينيين، واليسار الإسرائيلي وأطروحاته المُعتدلة للسلام زمن ولّى.

أما السلطة الفلسطينية فتهدد بوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل إن أقدمت على ضم أراضٍ من الضفة الغربية، غير أن كل التهديدات السابقة كانت "رصاص فشنك"، واستكمل التنسيق رغم استمرار الانتهاكات الإسرائيلية، والأردن يحاول حشد التأييد لمواقفه؛ لدرء المخاطر عن بلاده، في وقت يرتفع فيه صوت رئيس الوزراء الأسبق عبد الرؤوف الروابدة محذرا "من حصار اقتصادي للأردن" ومنبها إلى أن كلفة موقفه الرافض لـ"صفقة القرن" غالية وعليه أن يكون جاهزا لدفع الثمن.

أُعلنت "صفق القرن" ولم يغضب الشارع العربي كثيرا، ولم تخرج المسيرات بالمدن العربية لتهز العروش كما كان متوقعا؛ ولهذا فإن التواطؤ الرسمي والصمت الشعبي أفضل جائزة للرئيس ترامب؛ ليُثبت صحة نظرته للعالم العربي المُتهاوي، ولنتانياهو أو من يخلفه للمضي في إجراءات أحادية لتنفيذ ما ورد في "صفقة القرن".