ما بعد الصفقة

اخبار البلد-

 

صائب عريقات كشف المكشوف أصلا، وأذاع ما تصوره سرا، قال كبير المفاوضين الفلسطينيين أن عنده ما يؤكده، وركام من وثائق ومحاضر اجتماعات، تفيد بأن ما يسمي خطة سلام ترامب أو «صفقة القرن»، ليست من بنات أفكار جاريد كوشنر، ولا جيسون غرينبلات ولا الرئيس الأمريكي المتعجرف، ولا وليدة إعلان 27 يناير 2020، بل هي بالنقطة والفاصلة والحرف والخرائط المرفقة، هي ذاتها التي عرضت على المفاوضين الفلسطينيين يوم 23 سبتمبر 2012، من قبل بنيامين نتنياهو، الذي كان رئيسا لوزراء كيان الاغتصاب الإسرائيلي وقتها، بالضبط كما هو اليوم.
شهادة عريقات قد لا تقدم معنى جديدا، بقدر ما تؤكد الثابت والمستقر، الذي خرج للعلن بسفور وتبجح استفزازي مع رئاسة ترامب، التي يسعي لتجديدها بكسب رضا إسرائيل واللوبي الصهيوني في أمريكا، ليواصل التصور ذاته الخادم لإسرائيل، فما بين أمريكا وإسرائيل علاقة اندماج استراتيجي، ودور واشنطن هو تجنيد قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، لفرض إرادة العدو الإسرائيلي، والضغط على النظم العربية الخائرة، التي تضغط بدورها على السلطة الفلسطينية، بهدف دفعها لتقبل النقاش والتفاوض المذعن للصفقة الأمريكية ذات المنشأ الإسرائيلي.
وقد لا يكون من جديد في الرفض الفلسطيني المبدئي لصفقة ترامب الجديدة القديمة، فقد رفض الفلسطينيون ما هو أقل سوءا وكارثية منها، ورفض الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات صفقة «كامب ديفيد» الثانية قبل عشرين سنة، كان رئيس وزراء كيان الاحتلا ل وقتها الجنرال إيهود باراك، وكان سيد البيت الأبيض بيل كلينتون، وجرت مفاوضات مطولة وسرية، رفض عرفات في نهايتها التوقيع على اتفاق برعاية أمريكية، وأعلن أنه لن يخون القدس، ووضع الخطوط الحمر، أمام أي مفاوض فلسطيني يلحقه، فما بالك إذا كانت الصفقة الجديدة، لا تبيع القدس وحدها لإسرائيل، بل تبيعها الضفة الغربية، إلا من قليل متناثر، وتبقي للفلسطينيين دويلة ميكروسكوبية كاريكاتيرية، بدت في خريطة ترامب على صورة ثعبان يتلوى، برقشوا جلده بخمس عشرة مستوطنة يهودية كبرى، وأحاطوه من كل الجهات بأراض تهدى لإسرائيل، بينها منطقة الأغوار، التي تمثل ثلث مساحة الضفة الغربية، وفيها أغلب موارد المياه، ونصف سلة غذاء الفلسطينيين في الضفة، فضلا عن أخذ إسرائيل للقدس بكاملها، وتصوير أجزاء من «حي شعفاط» و»أبوديس»، كأنها تصلح عاصمة مقدسية للدويلة الفلسطينية، مع أنها خارج القدس المحتلة أصلا، في حين تبقى المستوطنات اليهودية مدارة وموصولة بكيان الاحتلال، وتبقي فتافيت الأرض المعادة للفلسطينيين مفككة، توصل فراغاتها بجسور وأنفاق، بينها النفق المقترح إقامته بين غزة، وما تبقى من الضفة الغربية، مع إضافة رشاوى مقترحة، بينها منطقة زراعية ومنطقة صناعية جنوب رفح الفلسطينية، ووعود بأموال تصل إلى خمسين مليار دولار، يدفعها الخليجيون العرب بأمر الأمريكيين، وعلى سبيل إغراء الفلسطينيين ببيع وطنهم التاريخي في سوق النخاسة.
وقد لا يكون من عجب في مواقف أغلب النظم العربية الحاكمة، وبياناتها الهزلية التي صدرت تباعا، وعبرت فيها عن «تقديرها» لمواقف الإدارة الأمريكية ورعايتها للسلام، ودعت إلى ما سمته «دراسة» الخطة الأمريكية، حتى لو انطوت على معنى بيع فلسطين، ومدّ حدود كيان الاغتصاب الإسرائيلي من نهر الأردن إلى شاطئ البحر المتوسط، فلا محرمات ولا مقدسات عند هؤلاء، والحرام الوحيد عندهم، أن يعارضوا واشنطن لا سمح الله، فكراسي الحكم أهم عندهم من فلسطين، حتى لو أعادوا طلاء بياناتهم المخزية في اجتماع الجامعة العربية، وأعادوا ترديد المعزوفة الفولكلورية المعتادة، عن مبادرة السلام العربية، وعن ما يسمونه مقررات الشرعية الدولية، ونصح الفلسطينيين بالتفاوض والتواصل مع الإدارة الأمريكية، مع تركهم فريسة لتوحش الاحتلال الإسرائيلي، فالأهم عند هؤلاء الحكام، هو التفرغ لتمتين الصلات وتوثيق علاقات التحالف مع إسرائيل، وكسب رضا واشنطن عبر كسب قلب وعطف إسرائيل، إلى حد حضور بعضهم حفل إعلان صفقة بيع فلسطين في البيت الأبيض، فهم جماعة إسرائيل بلا حرج، ولا مانع عندهم من بيع الأوطان وبيع فلسطين وبيع الأقصى وبيع القدس، بل والتكفل بدفع الثمن نقدا بالوكالة عن أمريكا وإسرائيل.

الرد على صفقة الهوان لا يكون بغير صفقة المقاومة، والعودة إلى تركيز الجهد الفلسطيني على فعل الانتفاض من أجل الحرية

ومعنى ما تقدم ببساطة، أن الكرة عادت إلى ملعب الشعب الفلسطيني، وكما كانت عليه الأمور عبر سنوات بعيدة خلت، وقد رفض الفلسطينيون صفقة البيع، ويواصلون الرفض عبر بيانات وتصريحات ومسيرات غضب، وهذا حقهم الذي لا يمارى فيه، فالدم لا يصير ماء، والأرض الفلسطينية كلها مجبولة بدم شهداء الشعب الفلسطيني، والمفاوضات لم تصل بهم إلى شيء من كسب حقوقهم غير القابلة للتصرف، وأرض فلسطين كلها من النهر إلى البحر، لا يصح التفريط بذرة تراب منها، ولم يجلب التنازل سوى المزيد من التنازل، وكارثة اتفاق أوسلو 1993، لا تزال ترخي ظلالها السوداء، واستمرار انقسام 2007 يشل الحركة الفلسطينية، ولا حل متاحا للفلسطينيين، سوى أن يخلعوا أشواكهم بأيديهم المدماة، خاصة مع تخلي النظم العربية عن رعاية قضيتهم، وخذلان ما يسمونه بالمجتمع الدولي، حتى لو جرى استنكار ومؤاخذة التصرفات والصفقات الأمريكية الإسرائيلية، وهذه كلها من فوائض العبث، فالتركيز على ما يسمى «العمل الدبلوماسى» الفلسطيني، والشكوى للمنظمات الدولية والإقليمية، والاعتصام بأذيال قرارات الشرعية الدولية إياها، كل ذلك بلا جدوى عملية، والقصة الجارية اليوم هي فرض نهائي للأمر الواقع، ولا يفل الحديد إلا الحديد، وما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها، و»صفقة القرن» لن تنتهي لمجرد الإعلان فلسطينيا عن رفضها، فالأهم أن تجري ترجمة الرفض إلى سلوك جديد مؤثر، وألا ينتهي الغضب إلى محض بيانات عاطفية، ولا إلى مجرد قصائد شجن تتغني بعذاب الشعب الفلسطيني، ولا إلى مجرد لقاء عابر في غزة بين حركتي «حماس» و»فتح»، وأقل الواجب أن تطوى صفحة الهوان كلها، وأن ينتهي الانقسام بين غزة ورام الله فورا، ومن دون الحاجة إلى اجتماعات مصالحة إضافية، عقدت منها مئات الاجتماعات من قبل، ومن دون التوصل إلى خطة عمل جديدة، تليق بتحدي النوازل الجسام، التي لحقت بالوضع الفلسطيني، فأنهكته ومزقته، وقدمت خدمة فلسطينية مجانية لكيان الاحتلال الإسرائيلي.
وليس عند الفلسطينيين من بديل في ما نتصور، سوى أن يحطموا قيودا وضعوها على أيديهم، جعلت من قضية الشعب الفلسطيني آخر اهتمامات الفصائل المتصدرة للمشهد، وقد لا يفيد المزيد من البكاء على اللبن المسكوب، والأهم هو وقف الخطايا، فلا يليق بأحد أن يدعي الانتساب لقضية التحرير الوطني الفلسطيني، ثم يستمر في الوقت نفسه بالتنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال الإسرئيلي، وهنا نتمني أن تكون قطيعة الرئيس عباس الخطية الأخيرة لنتنياهو نهاية لعار التنسيق مع العدو، ولا يليق بأحد أن يدعي مقاومة المخططات الأمريكية الإسرائيلية، ثم يتمسك بامتيازات سلطة «أوسلو» الوهمية، ولا يليق بأحد أن يعلن رفض الوساطة الأمريكية، ثم يسعى من وراء ستار إلى التفاوض مع كيان الاحتلال مجددا، وقد قرر المجلسان «المركزي» و»الوطني» الفلسطينيان مرات، وقف العمل باتفاقات أوسلو ولواحقها بالجملة، وشطب الاعتراف بإسرائيل، ولم ينفذ القرار كاملا إلى اليوم، وهنا جوهر الخلل الذي يصح الانتباه إليه قبل أن يضيع الشعب الفلسطيني في ربع قرن آخر من التيه، والمطلوب في ما نتصور، حل السلطة البائسة أولا، وإطلاق طاقات الشعب الفلسطيني في ممارسة حق المقاومة بكافة أساليبها، ورد الاعتبار لقضيته الأصلية كقضية تحرير وطني، ورد الاعتبار لمنظمة التحرير، كسلطة وحيدة ووعاء كفاحي وطني جامع، تنضم إليه حركتا «حماس» و»الجهاد الإسلامي» فورا، وبغير مماحكات لا معنى لها، من نوع نسب التمثيل والواجهات الرئاسية الفارغة، وتوحيد كل كيانات الكفاح المسلح، وقيادة المقاومة الشعبية والجماهيرية السلمية، والعودة إلى خط المقاومة الشاملة كخيار وحيد في المدى المنظور، فلا قيمة ولا جدوى لمفاوضات تجري في فراغ، وتعديل توازن القوى هو الذي يحفظ الحقوق، ويصوغ الحقائق الحية، وبغير خضوع لنصائح نظم عربية سامة، تستعبد شعوبها، وتخون فلسطين في الوقت نفسه، ولا فرصة لشل خيانة هذه النظم، سوى بتفجير وإطلاق شعلة الكفاح الفلسطيني من جديد، فالحق بغير القوة ضائع بالتأكيد، والرد على صفقة الهوان لا يكون بغير صفقة المقاومة، والعودة إلى تركيز الجهد الفلسطيني على فعل الانتفاض من أجل الحرية، وهو ما يستطيعه الشعب الفلسطيني، الذي لا تنبني وحدته الوطنية على غير الأساس المقاوم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.