اغتيال قاسم سليماني

قاسم سليماني شخصية عسكرية ايرانية عالية المستوى، ليس في ايران فحسب بل في الشرق الأوسط والجزيرة العربية بشكل عام، ويعتبر المهندس المختص بأعمال محور المقاومة في كل من العراق وسوريا ولبنان وغزة واليمن والبحرين وافغانستان وغيرها، يشرف قاسم سليماني اشرافا مباشرا على العمليات العسكرية في المنطقة من تخطيط وتنفيذ وتسليح وتدريب، هو قائد فيلق القدس المختص بهذه العمليات، ومسؤول عن أذرع ايران في المنطقة عبر ميليشياتها في مختلف المناطق، يزودها بالأسلحة المتطورة ومنها الصواريخ الدقيقة المصنوعة في ايران وكذلك بالطائرات المسيرة "بدون طيار" التي تضرب الأهداف العسكرية بدقة فائقة دون ان تكشفها اجهزة المراقبة والرادارات المتطورة، والتي تستخدم بضرب أهداف استراتيجية داخل الأراضي السعودية كالمطارات الحيوية والمنشآت النفطية الحساسة التي كان آخرها تدمير شركة آرامكو النفطية؛ المزود الرئيسي لسوق النفط العالمية "أوبيك"

وبسبب توالي الاحتجاجات الشعبية في العراق التي شارك فيها كل أطياف الشعب العراقي وتوحدوا للمرة الأولى منذ اكثر من عشرين عاما لمكافحة الفساد الذي نخر بالشعب العراقي، وبشكل متوازٍ للاحتجاجات في لبنان لذات الهدف، ومحاولة أمريكا تقديم مرشح عراقي لرئاسة الوزراء محسوبا على الولايات المتحدة الأمريكية ولكنه متهم من الشعب بالفساد، ازدادت حدة الاحتجاجات حتى وصلت محيط السفارة الأمريكية داخل المنطقة الخضراء في بغداد، وعدم مقدرة قوات الأمن والجيش من منع المتظاهرين من الوصول لمحيط السفارة، وقد قتل وجرح الكثيرين في هذه المظاهرات لمستوى غير مقبول من الرأي العام العالمي المدافع عن حقوق الانسان، الأمر الذي اعتبرته الولايات المتحدة استفزازا صارخا لها، وقد وجدت قائد فيلق القدس يصول ويجول في المنطقة ما بين العراق ولبنان وسوريا يخطط لعمليات المقاومة، وللرد أيضا على تصرفات ايران التي اسقطت الطائرة الأمريكية المسيرة في الخليج واحتجاز لناقلة نفط بريطانية من قبل ايران ردا على احتجاز ناقلة النفط الايرانية في جبل طارق، وقيام ايران بعدم الاذعان للجلوس على طاولة المفاوضات بالرغم من الحصار الاقتصادي والمالي المفروض على ايران ووقوفها بموقف المتحدي الذي لا يرضخ، الأمر الذي دفع ترامب للقيام بتوجيه ضربة موجعة للنظام الايراني، وقد وجدت بقاسم سليمان صيدا ثميناً خاصة وان هذا الأخير كان يتحرك بحرية تامة في المنطقة متجاهلا لأسس السرية في تحركاته، وخلال انتقاله من سوريا الى بغداد بواسطة الطيران قامت امريكا بتتبع سليماني ومرافقيه من القادة العسكريين، ووجهت له ضربات صاروخية دقيقة من طائرة مسيرة لتحول موكبه الى أشلاء وليصبح هذا القائد من الماضي.

وهنا نتوقف قليلا عند هذا الحدث لنحلل هذا الموقف بالمنطق، ومن زوايا مختلفة نبدأها بالزاوية الايرانية،فسليماني اصبح شخصية قوية جدا في ايران ويبدو أن حجمه اصبح لا يتسع صدور القادة الايرانيين فبات عبئا ثقيلا عليهم وان التخلص منه يريحهم ويفسح لهم المجال أكثر لابداء الرأي وفرض الرأي في الداخل الايراني وخارجه، خاصة وأن اعمال المقاومة المتزايدة اصبحت تعرض ايران للحرج الدولي، لأنها وضعت ايران دوما في دائرة الاتهام، حتى وإن لم تقم ايران بأي عمل بشكل مباشر ولكن من خلال اذرعها في المنطقة لتنفيذ المخططات الايرانية ونثير الاضطرابات هنا وهناك، وما يدفعنا للاعتقاد بهذا المنحى أن هذه الشخصية وبهذا الحجم كان لا بد من توفير الأمن والحماية اللازمة لها كي لا يقع في الفخ كما حدث له أمام اعين العالم وبهذه السهولة، ولم تحاط زياراته بالسرية المطلوبة وكان مكشوفا لأجهزة الاستخبارات الأمريكية والاسرائيلية، والاسرائيليون كانوا الأكثر مراقبة لتحركات سليماني، لطالما كان هاجسهم في المنطقة، واعتقد جازما بأنهم هم الذين زودوا امريكا باحداثيات تحركاته، ومن جهة أخرى كانت طائرات الأباتشي الأمريكية على مدار الثلاثة ايام السابقة لاغتيال سليماني تقوم بعمليات مسح امنية مشددة بمحيط المنطقة الخضراء في بغداد، ولم تعمل الاستخبارات الايرانية على منع سليماني من التحرك بهذه الطريقة العلنية لولا رضاها وتواطؤها مع الامريكان في تصفية سليماني، هذا المنحى يعتقده الكثيرين وانني لا استبعد هذا الاحتمال كثيرا,

اما الاحتمال الآخر الذي ذهبت اليه معظم التوجهات السياسية والصحفية ان الاغتيال تم بدافع الانتقام من ايران ومنع سليماني من شن المزيد من عمليات المقاومة في المنطقة، خاصة وان ترامب ذهب في تبريره الضعيف لما قام به بأن سليماني كان يخطط في لبنان وسوريا على ضرب اهداف امريكية في المنطقة، ولكن هذا التبرير لم ينطلي على الأمريكان الذين انقسموا حيال هذه المسألة ما بين مؤيد ومعارض لعملية الاغتيال، وبالنسبة لأمريكا فإنني اعتقد بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أراد تصدير مشاكله الداخلية وتحويل الرأي العام الأمريكي الذي اثقل عليه بمحاولة عزله عن منصب الرئيس، وحتى لو لم يعزل فعلى أقل تقدير فأنه لن يحظى بفرصة الحصول على كرسي الرئيس في الانتخابات القادمة، ولكنه اعتقد ان هذه اللعبة قد تعمل على رفع شعبيته في الداخل وتحويل انظار الأمريكيين من العزل للرئيس الى الانشغال بالسياسة الخارجية وحماية الامريكان الذين يعملون في المنطقة.

على أية حال نحن امام تحدي عالمي جديد؛ فالضربة الأمريكية نجحت بقتل اكبر شخصية ايرانية مؤثرة ليس فقط في ايران بل في المنطقة كلها، فهل ستقوم ايران بالرد بذات الطريقة وذات المستوى من الأهداف؟!

اعتقد جازما بأنه لن تتم مواجهة عسكرية أوحربا مفتوحة بين الطرفين على الاطلاق، فلا ايران تستطيع الدخول بحرب مفتوحة ضد امريكا وحلفائها في المنطقة وعلى رأسهم اسرائيل والسعودية والامارات وقطر والكويت والبحرين والاردن ومصر وغيرهم،لأن الاقتصاد الايراني قد تضرر كثيرا من نظام العقوبات الأمريكية ولا يوجد لها مصادر لتغطية نفقات الحروب التي تكلف الخزينة الكثير، ولا تستطيع امريكا الدخول في حرب مباشرة لعدم وجود الجيوش الأمريكية الكافية على الأرض، وكل ما تستطيع القيام به هو توجيه ضربات جوية بالطائرات او الصواريخ ضد اهداف معينة وهذه الضربات وان كانت موجعة الا انها غير كافية اطلاقا للقيام بحرب مفتوحة حتما ستحقق ايران منها مكاسب كبيرة خاصة وان جميع دول الخليج واسرائيل دون استثناء تحت مرمى الصواريخ الايرانية البالستية،

اذاً ما الذي سيحدث؟

هنالك اشارات صدرت عن الطرفين وهي اشارت تحدي وتهديد، ولكن في ثنايا هذه الاشارات نستشف رغبة الطرفين بعدم الدخول بحرب مفتوحة ومباشرة، فأمريكا ارسلت العديد من الرسائل عبر حلفائها للجلوس على طاولة المفاوضات الا ان الرد الايراني كان قاطعا بأنها لن تجلس للمفاوضات ولديها الاصرار على الرد في الزمان والمكان والكيفية التي تراها مناسبة، وهذه سياسة قوية من ايران لأنها تضع الخصم في إطار الحرب النفسية فهو لا يعرف كيف يتم الرد ولا اين وما هي الأهداف التي ستضرب، مما يجعل امريكا في حالة ارتباك وهذا ملاحظ وجلي بالموقف الأمريكي الذي بدأ باستعمال صيغ متشددة من التهديد والوعيد ولكنه لا يقدر ان يقوم بأي عمل الآن الا اذا قامت ايران او اي من اذرعها بعمل ما لتقوم بواجب الرد، بالمقابل اصبحت ايران على مشارف تحقيق بعض من المكاسب السياسية باعتقادي منتهزة التعاطف الدولي مع هذه الحادثة وعدم إجماع كل الأمريكيين على هذه الضربة، فالموقف الأمريكي مرتعب ومهتز، ولذلك قامت ايران على الفور بتقليص التزاماتها فيما يتعلق ببرنامجها النووي لتعود ايران من جديد الى موضوع الأبحاث النووية والتخصيب بأعلى مستوياته وتحت مراقبة منظمة الطاقة النووية، ومستغلة أيضا ضعف الموقف الأوروبي الباهت الذي لم يقدم لايران شيئا مقابل التزامها بالاتفاقية النووية التي انسحبت منها امريكا، وكذلك الأمر فإن ايران نجحت بحشد الرأي العام العراقي ومجلس النواب العراقي الذي اصدر اليوم مذكرة اجمع عليها معظم العراقيين للطلب الى رئيس الوزراء للعمل على انهاء الوجود الأمريكي في العراق وهذا هدف حيوي واستراتيجي لايران، فاذا استطاع العراقيون النجاح في هذا المسعى فانه سيشكل انتصارا قويا لايران في العراق قد يعادل بمستواه الاستراتيجي مقتل سليماني او أكثر بكثير. لهذا سيكون الرد الايراني تجاه هذا الحدث متمثلا باقتناص الفرص وتحويل هذا الحدث الى فرصة لمتابعة البرنامج النووي من جهة وتخفيف وطأة العقوبات التي أنهكت الاقتصاد الايراني، وتخليص المنطقة من التواجد الأمريكي او تقليص تواجده لتأخذ ايران أريحيتها في التحرك وتحقيق بعضا من أهدافها الاستراتيجية. مع احتفاظها بحق الرد، وإنني على يقين ان يكون هنالك رد ايراني غير مباشر ومحدود لحفظ ماء الوجه، لأن لايران هدف أبعد بكثير من الرد كرد على حادثة معينة.

خلاصة القول أن البعد الاستراتيجي لمقتل قاسم سليماني لن يكون في صالح امريكا، بل انه يصب في صالح ايران اولا وأخيرا، ذلك ان الشخصيات العقائدية الجهادية التي تغذي روح المقاومة موجودون في ايران فسيأتي من هو بمستوى سليماني من القادة الميدانيين ليقوم بالمهمة ويواصل دعم محور المقاومة بالتخطيط والتسليح والتدريب وهذا خط متبع في المنطقة وتقوم به ايران منذ عشرات السنين، ولكن بالنسبة الى أمريكا فإنني اجد ان وجودهم اصبح مكللاً بالمخاطر وكل عنصر امريكي اصبح مستهدفا ولهذا ومنذ اللحظة الأولى اصدرت امريكا بيانا الى قواتها بالعراق للعودة الى ثكناتهم وسحبت جميع المستشارين السياسيين والاقتصاديين وتسفيرهم الى بلادهم فورا خوفا من الانتقام، فعمليا خسرت امريكا مكانها على الأرض حاليا، واصبح قرار طردهم من العراق اقرب من اي وقت مضى لوجود ارادة شعبية صلبة وايمان هذه الارادة بفشل امريكا في قيادة العراق نحو البناء والتعافي من الأوضاع الاقتصادية والمعيشية السيئة التي يعيشها العراقيون وعلى رأس هذه الأوضاع الاقتصاد الذي نخر به الفساد والمفسدين المدعومين من امريكا، ويبدو ان السياسة الأمريكية في الايقاع بالعراق في في مستنقع الفساد قد وصل لدرجة لم يعد يستطع العراقي تحملها فثار ثورة شجاعة لوقف هذا النزيف من خلال التظاهر الذي بدأ يؤتى أكله، طالبين الى الله العلي القدير أن يعيد العراق الى سابق عهدة في التطور والازدهار في كافة الميادين ليرجع العراق السند والسد المنيع للأمة العربية جمعاء.