إسرائيل والأردن: سيناريوهات مخاطر وفـرص

مراقبة إسرائيل تطورات "الربيع العربي" المتلاحقة تبدو مقرونة بعدسة مكبرة متركزة على نحو خاص في الأردن، من منطلق أن الدولة العربية المقبلة المرشحة لأن تندلع ثورة شعبية فيها (بعد كل من تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسورية) يمكن أن تكون التي لا يوجد توقعات كبيرة بشأن إمكان اندلاع ثورة فيها مثل "الجار الشرقي لإسرائيل"، وفقًا لما أكده أخيرًا أحد المعلقين السياسيين في صحيفة "يديعوت أحرونوت".
 
وبحسب الجنرال احتياط غيورا أيلاند، الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) ومجلس الأمن القومي، والباحث الكبير حاليًا في "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، فإن القلق يساور بعض المسؤولين في إسرائيل من احتمال أن يتأثر الأردن بكيفية ما من ثورات "الربيع العربي"، على الرغم من أن الأوضاع العامة فيه تبدو مستقرة حتى الآن بهذا القدر أو ذاك.
 
وقد عزا أيلاند هذا القلق، في سياق مقالة جديدة بعنوان "التغيّرات في الشرق الأوسط وأمن إسرائيل" ظهرت في مجلة "المستجد الإستراتيجي" الفصلية الصادرة عن المعهد المذكور (عدد تموز/ يوليو 2011)، إلى ثلاثة أسباب جوهرية هي:
 
ـ أولاً، تعالي أصوات داخلية أردنية كثيرة في الآونة الأخيرة تنتقد بصورة غير مسبوقة العائلة المالكة ولا سيما الملكة رانيا العبد الله؛
ـ ثانيًا، الإسقاطات الخطرة بالنسبة إلى الأردن التي ربما ينطوي عليها الانسحاب الأميركي من العراق والذي من المتوقع أن يتم العام 2012؛
ـ ثالثًا، وهو في نظره السبب الأهم، كون التداعيات التي ستطول إسرائيل برشاشها في حال اندلاع ثورة في الأردن خطرة للغاية. ومع أن هذه التداعيات يمكن أن تكون برأيه شبيهة بتداعيات ثورة 25 يناير المصرية، فيما هو مرتبط بتقويض فرضية تلاشي حالة الحرب بين الدولتين، إلا إنها يمكن أن تكون أدهى من ذلك كثيرًا في كل ما يتعلق بالهدوء والتعاون الأمني على طول خط الحدود بين الدولتين، إذا ما تمّ الأخذ في الاعتبار واقع أن إسرائيل استفادت كثيرًا من حقيقة أن هذه الحدود التي تعتبر الأطول كانت الأكثر هدوءًا وأمنًا على مدار أعوام طويلة، وحتى قبل توقيع اتفاقية السلام مع الأردن العام 1994.
 
وفي قراءته فإن تغيّر السلطة الحالية في الأردن سيلزم إسرائيل بأن تخصص موارد هائلة لتحسين جهوزيتها العسكرية على تلك الحدود. غير أنه من جهة أخرى حرص على غمز فلسطين من قناة الأردن، حين أكد أن اندلاع "ثورة ديمقراطية" في هذا البلد الأخير تسفر عن انتقال السلطة إلى الأغلبية الفلسطينية من شأنه أن يدشّن مرحلة جديدة في تاريخ الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، ربما تكون متميزة بصعود اقتراحات جديدة لتسويته، بمنأى عن المعادلات التقليدية التي مُنيت بالفشل إلى الآن.
 
وقد تجنب أيلاند الخوض في أي تفصيلات تفصح عمّا يقصده، وفيما إذا كان ما يقوله يشفّ عن تماهٍ مع شعار اليمين الإسرائيلي المتطرف بأن "الأردن هو فلسطين"، وأن "وجود الأردن ككيان مستقل من الناحية التاريخية هو وجود مصطنع، ذلك بأن خطوط حدوده رسمت بشكل تعسفي وطبقت على مجموعات سكانية تفتقر إلى ذاكرة تاريخية مشتركة وإلى تراث قومي يمكن لهما تسويغ توليف هذه المجموعات كلها في كيان واحد" (وفقًا لدراسة جديدة نشرها إيلي مايزليش، أستاذ الدراسات الشرق أوسطية وتاريخ الشعب اليهودي في جامعة بار إيلان، في مجلة "ناتيف"- مسار- الصادرة عن "مركز أريئيل للدراسات السياسية"). وهو ما عاد وأكده عضو الكنيست آرييه إلداد من حزب "الاتحاد القومي" ("معاريف"، 14/9/2011) بالتزامن مع إخلاء السفارة الإسرائيلية في عمان تخوفًا من تظاهرات ضدها على غرار التظاهرات التي جرت ضد السفارة الإسرائيلية في القاهرة.
 
غير أن هذا الخبير الأمني الإسرائيلي ذاته كان قد تناول الموضوع الأردني- الفلسطيني قبل وقائع "الربيع العربي" بعدة أشهر، وذلك ضمن سياق دراسة مطولة بشأن إعادة التفكير في "مقاربة الدولتين" باعتبارها الحلّ الوحيد الممكن للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، صدرت في مطلع العام 2010 عن "مركز بيغن ـ السادات للدراسات الإستراتيجية" في جامعة بار إيلان، وطرح خلالها في حينه مسارين مختلفين للحل هما "المسار الأردني" و"المسار الإقليمي".
 
وبشأن المسار الأول رأى أنه حتى الفترة الأخيرة كانت فكرة طرح أي حلّ غير نموذج الدولتين غير مقبولة كليا بالنسبة لجميع الأطراف الضالعة في الصراع. لكن الآن بدأت ترتفع أصوات بين الفلسطينيين، وفي كل من الأردن وإسرائيل، تطالب بمقاربة تشبه خيار الفيدرالية الأردنية- الفلسطينية قبل عدة أعوام. والحافز الرئيس لهذه النقلة هو صعود حركة حماس. ففي الأردن، يقلق كثيرون من أن أي دولة فلسطينية تقام في الضفة الغربية سوف تقع تحت سيطرة حماس، تماما كما حدث في قطاع غزة. وبالتوازي مع تنامي نفوذ الإخوان المسلمين في الأردن، فإن تطوّرا مثل هذا قد يتسبب بانهيار النظام الحالي في عمان. ويدرك مفكرون معينون في الأردن أن الاتفاقية الإسرائيلية- الفلسطينية الوحيدة التي يمكن أن تحول دون هذه النتيجة، هي فيدرالية بين الضفة الغربية والأردن. وهذا التحرك سيمكّن عمان من فرض سيطرتها، وإفشال أي إمكان للتحالف بين حماس في الضفة الغربية والفلسطينيين في الأردن، الذين يشكلون الآن أكثرية السكان في ذلك البلد.
 
وأشار إلى أن هذا المسار لم يوضع بعد موضع الجدل الجاد، وعلى الرغم من أن حظوظه في النجاح ليست أقلّ من "مقاربة الدولتين" بأي حال، إلا إن طرحه ليس صحيحا من ناحية سياسية، لأن من شأن ذلك أن يضعف ما يعتبره المجتمع الدولي، وخصوصا العالم العربي، "حلا شرعيا"، وهذا لا يعني أن المعيار الحالي أكثر وضوحا، لكنه يظهر أن تغيير النموذج سيحتاج إلى تسويق ذكيّ، أكثر من مجرد استبدال خطة بأخرى.
 
وخلص إلى القول إنه في حال إدراج الخيار الأردني في النهاية في جدول الأعمال، فإن تنفيذه سيحتاج إلى ما هو أكثر من اتفاقية ثنائية إسرائيلية- أردنية (وفقًا للمقاربة التي اقترحت العام 1987). وبدلا من ذلك، يجب أن تخرج التسوية النهائية من رحم مفاوضات ثلاثية إسرائيلية- أردنية- فلسطينية، وذلك لأن الزمان الذي كان فيه الآخرون يتّخذون القرارات للفلسطينيين (كما فعل مناحيم بيغن وأنور السادات في إطار اتفاقيات كامب ديفيد العام 1979) قد ولّى.
 
ومعروف أنه في العام 1987 عقد اجتماع سرّي في لندن، بين الملك حسين، عاهل الأردن، ووزير الخارجية الإسرائيلية شمعون بيريس، تم في أثنائه التوصل إلى ما عرف باسم "اتفاق لندن". ونصّ هذا الاتفاق على اعتبار معظم الضفة الغربية جزءا من فيدرالية أردنية- فلسطينية. وطبقا لهذا المفهوم، كانت إسرائيل ستتخلى عن معظم المناطق الفلسطينية المحتلة، وسيتحرّر الفلسطينيون من الاحتلال الإسرائيلي، ويتمتعون باستقلال محدود. وفي الوقت ذاته، كان الأردن هو الدولة الوحيدة التي سيسمح لها بنشر قوات مسلحة في المنطقة. لكن رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحاق شامير رفض الفكرة من أساسها. وبعد فترة وجيزة، أعلن الملك حسين أن الأردن سيتوقف عن تمثيل فلسطينيي الضفة الغربية، وفي الأعوام التي تلت ذلك أكد الأردن أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين، وهكذا أصبحت الدولة الفلسطينية هي الحلّ الوحيد المقبول.
 
وكان مدير "مركز بيغن- السادات للدراسات الإستراتيجية" البروفسور إفرايم عنبـار قد رأى قبل ذلك، لكن في سياق متصل، أن إقامة السلطة الفلسطينية تشكل تجربة فاشلة، وأن هذا الفشل كامن على ما يبدو في طابع الحركة الوطنية الفلسطينية، ولذا يجب صعود نموذج جديد للحل يضع حدًا لوهم الحل القائم على "مقاربة الدولتين". وبرأيه يبدو أن الطريقة الأنجع لمواجهة مسألة طابع الحركة الوطنية الفلسطينية لا تكمن في إعطاء هذه الحركة مكانة دولة، وإنما في إعادة توجيه قطاع غزة نحو مصر، وإحياء العلاقة بين الضفة الغربية والضفة الشرقية (الأردن). وسوف يكون من السهل أكثر لمصر والأردن زيادة تدخلهما إذا ما جرى الأمر تحت مظلة دبلوماسية دولية، ويمكن تبرير مثل هذا التدخل بالقول إن الدولتين (مصر والأردن) ستلعبان دورًا مؤقتًا ريثما يكون الفلسطينيون جاهزين لإقامة دولة خاصة بهم (من دراسة له بعنوان "صعود وهبوط نموذج حل الدولتين"، نشرت في مطلع 2009).
 
وعقب الانقسام الفلسطيني في حزيران/ يونيو 2007 طرحت في إسرائيل مواقف دعت إلى "إعادة النظر" في حل الدولتين باعتباره الحل المبدئي الوحيد المطروح على بساط البحث، على الأقل منذ توقيع اتفاق أوسلو العام 1993، وألحت على العودة إلى الخيارات القديمة ومنها "الخيار الأردني" مثلاً.
 
ففي 3 تموز/ يوليو 2007 نشرت صحيفة "هآرتس" تقريراً مسهبًا على صفحتها الأولى، بقلم مراسلها السياسي في واشنطن شموئيل روزنر، ذكرت فيه أن "الخيار الأردني كحل للقضية الفلسطينية عاد ليحتل أخيرًا مكانة مهمة على طاولة المباحثات السياسية". وتابعت: "إن المؤشرات في شأن هذا التوجه تتراكم ببطء ولم يعد من الممكن الخطأ في تشخيصها"، لكنها زادت في التوضيح بقولها إن الخيار الأردني "الجديد" ليس بالضرورة أن يكون بالصيغة القديمة المعروفة (صيغة معسكر اليمين الصهيوني) القائلة إن "الأردن هو فلسطين"، وإنما يجب أن ينطلق من مبدأ "المساعدة الأردنية للفلسطينيين" أو "الكونفيدرالية" أو "تنظيم العلاقات الأردنية- الفلسطينية" أو "أي مسمى آخر". وأردفت أن "هذا الطرح لم يعد مقتصرًا على رجال اليمين المتطرف الذين يعارضون قيام دولة فلسطينية، بل إن المسألة الفلسطينية الأردنية باتت مطروحة أيضًا على جدول أعمال محافل أميركية مركزية ومؤثرة".
 
ودعا وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، موشيه أرنس، بشكل لا يقبل التأويل، إلى ضرورة تخلي صناع القرار في إسرائيل عن نموذج الدولتين لحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، والبحث عن حلول وبدائل أخرى لم يستثنِ منها بشكل جازم تكريس "فصل" قطاع غزة (في ضوء سيطرة حركة حماس على السلطة هناك) عن الضفة الغربية وتجزئة الحل، حتى ولو كانت خيارات "إعادة المنطقتين إلى وضعهما السابق لحرب حزيران/ يونيو 1967" (أي أن تكون الضفة الغربية خاضعة إلى الأردن، وقطاع غزة خاضعًا إلى مصر) مطروحة في هذه الأثناء كـ "مسائل نظرية". وأكد أن نموذج حل الدولتين الذي "بدا حتى الآن مسألة مفروغا منها أصبح محل علامة استفهام في أعقاب أعمال العنف الأخيرة في غزة". وتساءل "هل من المتوقع حقاً أن ينجح (الرئيس) محمود عباس في فرض سلطته في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وأن يجتاز التحدي الأصعب المتمثل في استعادة السلطة في غزة من يدي حماس؟!". وختم قائلاً "حسبما تبدو الأمور الآن، من الأفضل (لإسرائيل) الشروع في البحث عن نموذج جديد للحل" ("هآرتس"، 5/7/2007).
 
وكانت شخصيات مهمة أخرى في إسرائيل قد دعت في ذلك الوقت إلى التفكير بالعودة إلى "الخيار الأردني"، ومن بينها زعيم المعارضة اليمينية (حزب الليكود) بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الحالية، الذي تحدث علانية عن الحاجة إلى "إدخال قوات أردنية" إلى الضفة الغربية "للمساعدة في فرض النظام"، فيما اقترح الباحث في "مركز شاليم" المتماهي مع اليمين، مايكل أورن، السفير الإسرائيلي الحالي في الولايات المتحدة، العودة إلى فكرة "الحكم الذاتي" على أن يبقى "الأمن خاضعاً لمسؤولية إسرائيلية - أردنية مشتركة" ("هآرتس، 1/7/2007).
 
ووفقاً لصحيفة "هآرتس" فإن الحديث عن "العودة إلى الخيار الأردني" لم يقتصر على شخصيات اليمين بل سبقها إلى ذلك رئيس دولة إسرائيل الطازج آنذاك شمعون بيريس، والذي نقلت عنه الصحيفة قوله في شهادته أمام لجنة فينوغراد لفحص إخفاقات حرب لبنان الثانية (في صيف 2006): "علينا أن نبحث عن مبنى جديد للعلاقة مع الفلسطينيين. وإنني في قرارة نفسي قد عدت إلى الاستنتاج الذي اعتقدت به دوما وهو أننا ملزمون بجلب الأردنيين... فلا يمكننا أن نصنع السلام مع الفلسطينيين فقط".
 
لعل القاسم المشترك لجميع هذه الأفكار كامن في رسوخ اعتقاد إسرائيلي بأن حلّ الصراع مع الفلسطينيين على أساس "مقاربة الدولتين" لم يعد واقعيًا أو ذا صلة بالتطورات الأخيرة، ولا بُدّ من البحث عن مقاربات أخرى تخدم مصالح إسرائيل الإستراتيجية، فضلاً عن كون الأردن عنصرًا مهمًا في هذا السياق، سواء في حال تجاوز "الربيع العربي" له، أو حتى في حال امتداده إليه، لأنه كان ولا يزال أصلاً من أصول الأطماع الصهيونية في المنطقة العربية.