نظريتان في تفسير الفساد (4-3)

ذكرت في الحلقة السابقة أنّ الفساد معدٍ، بمعنى أن الشخص النزيه قد يَفْسَد بوجود آخر غير نزيه في الدائرة أو الشركة، فإلى جانب التفاحة الفاسدة تفسد السليمة أيضاً. فالآباء والأمهات والمعلمون والمعلمات والأساتذة والأستاذات والأطباء والطبيبات ورموز المجتمع المدخنون أو الذين يتعاطون المخدرات يعدون أطفالهم وتلاميذهم وطلبتهم ومرضاهم والمتابعين لهم من الناس…
وينتشر الغش والكذب والسرقة أو الفساد في المجتمع عندما يرى الناس الفاسدين ينجون من العقاب، أو أعضاء في جمعياتهم أو نقاباتهم أو أحزابهم أو نواديهم وبرلمانهم أو حكومتهم، يسرحون ويمرحون.
عندما نرى من هو منا وفينا يغش… فإننا قد نعيد تدريج ميزاننا الأخلاقي لتبني سلوك الفاسدين والانضمام إليهم. وقد قيل: ” إذا جُن ربعك عقلك لا ينفعك” ويقوى انجذابنا إلى الفساد عندما يكون الفاسد ذا مركز أعلى أو سلطة أكبر في المجتمع أو الدولة.
ربما كان السبب الرئيس للفساد أو للعدوى به عدم وضوح المعايير الاجتماعية والقواعد الأخلاقية والتشريعات القاطعة غير المفتوحة أو غير القابلة للتفسير أو التأويل، الخالية من اللغة أو المناطق الرمادية. ولمنع الفساد أو كبحه وتحجيمه يجب ألا يوضع المرء في مركز أو وظيفة أو موضع قرار ينازعه فيها تناقض المصالح أو تبادل المنافع، كما يبين الأطباء ومصانع الأدوية أو الصيدليات أو مستودعات الأودية، أو المختبرات الطبية. ولتخفيف ذلك طالب بعض النقاد في أميركا بمنع الأطباء من المساهمة في شركات صناعات الأدوية، أو بالعمل كمستشارين لها، بعد ما اكتشف أحد الطلبة في كلية الطب في جامعة هارفارد أن أستاذ الصيدلة في الكلية يروج لأدوية كلوسترول بعينها، وأن آثارها الجانبية قليلة، ليكتشف عندما اطلع على موقع الشركة في الإنترنت أنه مسجل على قائمة الموظفين فيها.
وأضاف بعض النقاد: يجب ألا يكون للأطباء أي حوافز مستقلة عن مصلحة المريض فلا يكثرون من إجراءات الفحوص المخبرية أو من كثرة الأدوية الموصوفة…
لعل القوة العظمى التي تعيقنا عن الفساد أو سوء الفعل والقرار خوفنا من الانكشاف أو الفضيحة، مما يجعل الشفافية ومحاكمة الفاسدين العلنية وبحيث تظهر في التلفزيون وفي الجريدة اليومية بحذافيرها، ضرورية، وإلا كانت المحاكمات أشبه بمقايضات أو مفاوضات. إن القبض على الفاسد وهو يغش أو يكذب أو يتلقى رشوة… ليس مثل عقابه العلني على الغش.
لقد بينت البحوث العلمية أن ولاء المرء للتجارة أو للصناعة غير المشروعتين أو انتماءه لهما أقوى منهما للتجارة والصناعة المشروعتين، وأنه في سعي أي دولة لمنع الغش أو الفساد يجب أن تركز على العلامات المبكرة لهما، وأن تقضي عليها في مهدها قبل أن تنمو وتكبر وتزدهر.
في أميركا ولاستماتة الناس لامتلاك الثروة والنجاح بأي ثمن صارت المقولة: أن نغش أو لا نغش. تلكم هي المسألة : To cheat or not to cheat , that is the question كما أقدم بعضهم هناك على تأسيس مواقع في الانترنت لتعليم الغش مثل موقع:Cheat.com كما ألف أحدهم في أميركا كتاباً لتعليم الغش للناس: (Get Rich by Cheating , by Jeff Kreisler).
تجعلنا هذه المناسبة نتحدث عن الهدايا التي يحصل عليها المسؤولون بحكم عملهم لا بحكم أشخاصهم: هل تكون ملكاً شخصياً لهم أم للدولة؟ لقد أخبرني أحدهم أن أستاذ شريعة أسبق صار وزيراً للأوقاف وأنه لما كان له مقعد في الجامعات بحكم عضويته في مجلس التعليم العالي، فقد كان يعطيه لبعض الناس لتمكين أبنائهم أو بناتهم من دراسة الطب أو الهندسة، تنهال على إثره الهدايا القيّمة منهم عليه، وأن وزير ثقافة أسبق أُهدي سجادة عجمية قيمتها آلاف الدنانير أثناء زيارته لدولة عربية في الخليج، وأنه احتفظ بها. ألم يحن الوقت لإصدار تشريع يقنن ذلك؟