البطالة...التحدي وآفاق الحل

البطالة من أكثر القضايا المحلية الحاحاً، هذا ما أكدته نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الاردنية في شهر تشرين الثاني الماضي، وكان جلالة الملك عبداالله الثاني حفظه االله قد اصدر توجيهاته للحكومة في شهر اذار من هذا العام بضرورة وضع الخطط العملية لتوفير فرص عمل للشباب، وأشار جلالته، خلال اجتماعات مجلس السياسات الوطني، ان البطالة تحد كبير أمام الشباب، والحد منها وتأمين مستقبل أفضل لهم أولوية قصوى، وأكد ايضاً أن جميع التعيينات الحكومية يجب أن ترتكز على أسس الكفاءة وتعتمد منهجيات واضحة وشفافة وعادلة ونزيهة، وتضمن تكافؤ الفرص، أما رئيس الوزراء فقد أكد أن «تشغيل

 

الأردنيين وإيجاد فرص عمل لهم تحتل سلم أولويات الحكومة، وأن مشكلة الفقر مرتبطة بشكل رئيس بالبطالة المرتفعة بين الشباب والفتيات»، وأمام هذا الاهتمام الشعبي والرسمي بموضوع البطالة لا بد لنا ان نتمعن في مختلف الجوانب المتعلقة بهذا التحدي الذي يواجه المجتمع الاردني بمختلف اطيافه ومكوناته، وان نبحث في اسبابه والنتائج المترتبة عليه وسبل مواجهته على مختلف الاصعدة. شهد الاردن خلال السنوات العشر الاخيرة تصاعداً مضطرداً في نسبة البطالة، فبعد ان كانت حوالي 5.12 %عام 2010 ارتفعت الى 3.16%عام 2016 ،والى 18%عام 2017» مع مراعاة تغيير منهجية الاحتساب »، ثم 7.18%عام 2018 ،وتواصل النهج التصاعدي خلال العام الحالي لتصل نسبة البطالة في الربع الثاني الى 2.19 ،%و1.19 %خلال الربع الثالث، ويلاحظ ارتفاع نسبة البطالة بين الاناث مقارنة بالذكور، فقد بلغ معدل البطالة للذكور (1.17،(% خلال الربع الثاني من 2019 مقابل (2.27 (%للإناث، والفرق أعلى بكثير اذا اعتمدنا المؤهل الجامعي حيث بلغت نسبة المتعطلين الذكور من حملة البكالوريوس فأعلى 1.30% مقابل 7.84 %للإناث، واجمالا فان نسبة البطالة بين حملة الشهادات الجامعية مرتفعة، حيث وصلت الى ما يقرب من 26 ،%كما ان حوالي 56 %من إجمالي المتعطلين هم من حملة الشهادة الثانوية فأعلى، وفيما يتعلق بالفئات العمرية فالشباب هم الاكثر معاناة من البطالة، حيث سجل أعلى معدل للبطالة في الفئتين العمريتين 15-19 سنة وفئة 20- 24 سنة، وبلغ المعدل 2.46 %و9.39 %لكل منهما على التوالي، يضاف لذلك التباين في نسب البطالة بين المحافظات المختلفة. ولا شك بان هناك ارتباطاً واضحاً بين الارتفاعات المتتالية في نسب البطالة وتدني نسب النمو الاقتصادي الى ما دون نسب النمو السكاني حيث وصلت الى مستوى قياسي خلال عام 2018 بتراجعها الى 9.1 .%واضافة لذلك فقد ساهمت العديد من العوامل الاخرى في الارتفاعات المتتالية لنسب البطالة المترافقة مع تراجع نسب النمو الاقتصادي، بما في ذلك الاحداث المؤسفة التي شهدتها دول الجوار خلال الاعوام الماضية، مما ترتب عليه حرمان الاقتصاد الاردني من اسواق تصديرية ذات اهمية، ناهيك عن الارتفاع في كلف الانتاج وخاصة الطاقة مما خفض من القدرة التنافسية للمنتجات الاردنية في السوق المحلي والخارجي. كما لا بد ايضاً من مراعاة ما يتصف به سوق العمل الاردني من حيث كونه مصدراً للعمالة ومستورداً لها في اُن معاً، ففي الوقت الذي ازددادت فيه اعداد العاملين غير الاردنيين نتيجة لموجات اللجوء، تقلصت فرص العاملين الاردنيين في اسواق الدول الشقيقة، وذلك بسبب المصاعب الاقتصادية التي عانت منها تلك الدول اضافة الى انتهاج سياسة توطين الايدي العاملة، ولكن كل هذه العوامل الخارجية لا تنفي حقيقة ان الهيكل الاقتصادي في الاردن يشهد ايضاً تطورات مختلفة لم يتمكن في ضوئها من توليد العدد الكافي والملائم من فرص

العمل، اضافة الى ان جزء كبير من هذه الفرص تشغله العمالة غير الاردنية، كما ان القطاع العام أصبح متخماً ولم يعد كالسابق قادراً على استيعاب مزيد من القادمين الجدد، ولعل رغبة كثير من الشباب بالعمل في القطاع العام تنبع من مستوى الامان الوظيفي الذي يوفره هذا القطاع، اضافة الى ان الكثير من المهن فيه أصبحت تحصل على رواتب اعلى مما يتم تحصيله في القطاع الخاص بغض النظر عن مستوى الانتاجية، ومن الملاحظ ان مشكلة البطالة في الأردن معقدة ومتداخلة الأسباب، بما فيها الاسباب المتعلقة بعدم المواءمة بين مخرجات التعليم واتجاهات الطلب على الايدي العاملة وتدني مستويات الكفاءة لدى بعض المهنيين، وهذا الامر بالتحديد لا بد ان يولى اهتماماً خاصاً ففي الوقت الذي نشهد فيه تطورات تكنولوجية ذات اثر مستقبلي كبير قد يغير معالم سوق العمل خلال السنوات المقبلة، بحيث يختفي جزء من الوظائف والمهن الحالية وتظهر وظائف ومهن جديدة، لذلك فنحن بحاجة الى بناء القواعد والاسس التي تمكن شبابنا من التأقلم مع التغيرات المستقبلية التي تلوح في الافق وان لا نكتفي بالمهن متدنية الانتاجية، فاقتصادات المستقبل ستكون معتمدة على كفاءات وقدرات مهنية وتكنولوجية رفيعة المستوى وذات انتاجية عالية وهو ما يعد ضرورة وطنية للتمكن من السير في ركاب التطور التكنولوجي ومواكبة المستجدات ليس فقط على صعيد سوق العمل وانما ايضاً على الصعيد الاقتصادي والعلمي والاجتماعي، وهذا يفرض علينا ان ننتبه الى نوعية الاستثمارات التي نرغب ان تشكل صلب الاقتصاد في المستقبل القريب وان نوفر لها بنية تحتية ملائمة وقوى بشرية مؤهلة، وقد دعا التقرير المقدم الى مؤتمر العمل الدولي الذي عقد في شهر حزيران الماضي الى «الالتزام بمجموعة من التدابير بهدف التصدي للتحديات الناجمة عن المتغيرات والتحولات غير المسبوقة في عالم العمل من تطور تكنولوجي وذكاء صناعي وأتمته الأعمال في إطار رؤية لخطة محورها الإنسان، والاستثمار في إمكانياته وضمان حقه في التعلم المستمر واكتساب المهارات لإتاحة الكثير من فرص العمل، و أهمية اغتنام فرصة التغيير لتحقيق الأمن الاقتصادي وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، كما حث التقرير على دعم الشباب خلال عمليات الانتقال من الدراسة إلى العمل وإعدادهم على نحو استباقي بما يتواءم مع التحولات التكنولوجية»، ولا بد لنا من البحث في حيثيات العملية التعليمية والتنموية لنتوصل لاسباب عدم مواءمة مخرجات التعليم لاحتياجات سوق العمل الأردني، وعدم القدرة على جذب مشاريع استثمارية بالشكل المؤمل خاصة في ظل ميزة الاستقرار التي تتمتع بها المملكة مقارنة بالبلدان المجاورة، كما ان ارتفاع العبء الضريبي اثر سلباً على الطلب المحلي مما قلص من امكانيات توسع الاستثمارات المحلية، ولا بد ان نقر ايضاً بان جهود تنظيم سوق العمل وخاصة ما يتعلق بالعمالة غير الاردنية لم تكن بالمستوى المطلوب، فثقافة العيب التي يتم التذرع بها احياناً تكاد لا تكون موجودة في ظل الظروف الراهنة، ومن العوامل

الهامة والتي لا بد من الاشارة لها موضوع تدني مستوى شبكة النقل العام مما يشكل عائقاً امام التحاق الكثيرين بالعمل وخاصة الاناث، كما اننا امام مسؤولية مراجعة البرامج التدريبية والتأكد من انها ساهمت في انخراط مزيد من الشباب الاردني في سوق العمل. ولكي نتمكن من توفير برامج فاعلة وكفؤة للحد من البطالة ومواجهتها لا بد لنا ان ندرك ابعادها المختلفة وانواعها المتعددة، بما في ذلك البطالة الاحتكاكية والتي تعبرعن التوقف المؤقت عن العمل بسبب الإنتقال من وظيفة لأخرى أو التوقف المؤقت للبحث عن وظيفة أخرى او لاسباب مؤقتة، وهناك البطالة الهيكلية التي تظهر نتيجة لتغيرات تطال طبيعة الهيكل الاقتصادي كأن يتحول مجتمع زراعي الى التصنيع او الى اقتصاد الخدمات، أما البطالة الدورية فعادة ما تترافق مع الدورات الاقتصادية و تقلب الطلب الكلي في الاقتصاد، وتتميز بعض القطاعات الاقتصادية مثل الزراعة بما يسمى البطالة الموسمية والتي تؤدي إلى فقدان العاملين في هذه القطاعات لوظائفهم بشكل مؤقت، ويمكن ان نضيف ايضاً نوعاً اخر من البطالة ينتج عن تولي العمالة غير الوطنية العمل في قطاع ما نتيجة لظرف ما يتعلق بالامكانيات التنافسية بين العاملين، كما لا بد ايضاً من الاشارة الى ما يمكن ان نطلق عليه بطالة ثقافة العيب او البطالة السلوكية والتي تعني عدم القبول باعمال او وظائف معينة نتيجة لنظرة المجتمع او ثقافته، ولا باس ان نشير هنا ايضاً الى البطالة المقنعة وهي وان كانت لا تعني التعطل عن العمل الا انها تشير الى تدني الانتاجية وعدم المشاركة الفاعلة في العمل، وهذه غالباً ما تكون في اجهزة القطاع العام. منطقتنا حاليا على ابواب الفرصة السكانية، وهذا يعني اننا امام فرصة نادرة للنهوض باقتصادنا ومجتمعنا والسير به في نقلة نوعية عبر استغلال الطاقات البشرية المتوفرة، وفي حال لم نتمكن من ذلك ولم نضع الخطط والبرامج المناسبة فان نسبة البطالة التي تبلغ حالياً بين الشباب حوالي 30 %ستشكل تحدياً يصعب التنبؤ بالنتائج المترتبة عليه، وقد يكون من المفيد البدء بالتنسيق بين بلدان المنطقة لتشكيل مسارات متوازية ومتوازنة تتعاضد معاً للاستفادة من هذه الفرصة التاريخية وبحيث تنعكس الاثار الايجابية على مجتمعات المنطقة بكاملها، ومن المؤكد ان الامكانيات متوفرة عملياً ولكن لا بد ان نحسن ادارتها وتوجيهها بالشكل المناسب، ولا بد لنا ان ندرك بان البطالة ليست مشكلة تخص دولة ما او مجتمعاً بعينه فهي في النهاية ظاهرة تشمل مختلف المجتمعات والدول ولكن تختلف اساليب معالجتها والتصدي لها فذلك ما يميز السياسات الناجحة والسليمة التي تؤدي لنتائج ايجابية، والاخرى التي يترتب عليها حلقة مفرغة من الاثار السلبية، فاستفحال البطالة قد يؤدي الى تراجع الاقتصاد وزيادة حدة مشاكله المختلفة بما في ذلك الضغوطات على الانفاق العام وخفض مستوى الاجور مما

يترتب عليه انخفاض الطلب المحلي وفقدان الامن الاقتصادي وخسارة الامكانيات المتاحة لدى القوى البشرية،كما ان الاثار الاجتماعية للبطالة تحمل في طياتها اثاراً مدمرة للمجتمع ككل وللافراد، فالحرمان وتدني مستوى الدخل وانتشار الفقر وتفشي اللامساواة وتضاؤل القدرة على تنمية الموارد البشرية ناهيك عن شعور الافراد بالعجز والتهميش قد يفاقم الجريمة والاضطرابات السلوكية والاحتجاجات العنيفة، وفي مثل هذه الظروف كثيراً ما تلجاً الكفاءات المميزة للهجرة لتستفيد منها دول اخرى وتشير بعض التقديرات الى ان الولايات المتحدة تجني من هجرة العقول اليها ما يعادل نصف ما تقدمه من قروض ومساعدات للدول النامية أما كندا فهي تحصل من هجرة العقول على ثلاثة أضعاف ما تقدمه من مساعدات، وعندما تصل الامور الى الهجرة أو الرغبة فيها فذلك يعني تزعزع الانتماء للوطن وربما عدم الرغبة في الامتثال لقوانينه واعرافه الاجتماعية، ولا ينبغي ان ننسى ان تفاقم البطالة سيؤدي الى تفشي الواسطة والمحسوبية وما يترتب عليهما من فساد اداري او مالي وبالتالي عرقلة حكم القانون وتفشي الظلم وما يترتب على ذلك من اثار اقتصادية واجتماعية وربما أمنية. لا يوجد من يشكك في ان البطالة هي احد المصاعب الاساسية التي يعاني منها الاردن، ولكي يتصف الطرح بالانصاف لا بد من الاقرار بان التعامل مع هذا الموضوع يحمل في طياته ابعاداً متعددة، وهو ليس من الامور التي يتم حلها بين ليلة وضحاها، الا ان ذلك لا يعني عدم السير قدماً والعمل بكل جدية للتصدي له، فكلما تأخرنا في تنفيذ الاجراءات كلما تعقدت الامور اكثر واصبحت الحلول أصعب،ومن ناحية عملية فقد تم خلال السنوات الماضية المبادرة الى طرح العديد من البرامج والافكار المتعلقة بموضوع البطالة وكيفية التعامل معها ومع النتائج المترتبة عليها، فالاردن لديه شبكة امان اجتماعي تشمل العديد من الجوانب مثل صندوق المعونة الوطنية الذي يقدم المساعدات للاسر الفقيرة وبرنامج الدعم النقدي والمعالجات الصحية لغير المقتدرين، كما ان هناك ايضاً برامج تهدف الى تشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وبرامج تدريب متعددة كبرنامج «خدمة وطن» يضاف لها جهود مؤسسة التدريب المهني ومبادرة وزارة العمل خلال الفترة الاخيرة لتنظيم سوق العمل والبرنامج الوطني للتشغيل الذاتي «انهض» وغيرها. الا انه وبالرغم من كل هذه الجهود لا تزال الاوضاع على ارض الواقع بعيدة عن الطموحات. بداية لا بد ان نعمق قناعتنا بالمعطيات الاساسية التي لا بد منها للتعامل مع معضلة البطالة، فالنمو الاقتصادي الشامل لمختلف مناطق المملكة والذي تنعكس اثاره على مختلف الفئات الاجتماعية هو الاساس الذي يمكن ان يوفر فرص عمل ملائمة، هذا من جانب ومن جانب اخر فان الوظائف الحكومية ليست هي الحل لذلك لا بد لنا من توفير

الظروف الملائمة لجذب الاستثمارات وتحفيزها وتنميتها والاهتمام بالمشاريع كثيفة العمالة وتلك التي تساعد الاقتصاد الوطني على التأقلم مع معطيات الثورة التكنولوجية والاقتصاد الرقمي، اضافة لذلك نحن بحاجة الى التأكيد على فكرة التشغيل بدلا من التوظيف وهذا يتطلب تشجيع الرياديين والمشاريع الصغيرة وتوفير المتطلبات اللازمة لنموها وازدهارها، ومن حيث التفاصيل لا بد ان نعمل على توفير حلول بشكل تكاملي وبمستويات زمنية متعددة، بمعنى ان تتكامل الحلول لتشمل مختلف مجالات سوق العمل مع الاخذ في الاعتبار الحلول في المدى الاني والقصير والمتوسط والطويل وبشكل يضمن التوازن في سوق العمل ويوفر متطلباته ويرفع من مستواه، والحديث هنا يتعلق بالمعالجة الانية لاحتياجات المتعطلين والفقراء عبر شبكة الامان الاجتماعي بمختلف مكوناتها، وتحسين ظروف العمل، والعمل بجدية اكبر للتعامل مع موضوع تنظيم العمالة الوافدة وفقاً للمصلحة الوطنية وتحسين خدمات النقل العام، ومن المهم ايضاً ايجاد التناغم المناسب بين سوق العمل ومخرجات النظام التعليمي، والاهتمام بموضوع التدريب المهني، ولا بد ايضاً من الاهتمام بالمحافظات عبر توفير الاستثمارات الملائمة لها وبما يتناسب مع طبيعة القوى العاملة فيها، كما ان الافكار غير التقليدية يمكن ان تشكل مخرجاً في العديد من الحالات مثل تأجير الاراضي العائدة للخزينة وتنمية السياحة الداخلية والسياحة البيئية وتطبيق مباديء الشفافية والحوكمة الرشيدة في مختلف المؤسسات وتنمية الاقتصاد الرقمي، كما يشكل التعاون مع الدول الصديقة والشقيقة مجالاً واعداً لدى السعي لحل مشكلة البطالة، وتشكل المبادرة القطرية الاخيرة نموذجاً يمكن السعي لتعميمه في علاقاتنا مع دول الجوار، ومن المهم ان نتعامل تحديات البطالة ليس بصفتها مشكلة العاطلين عن العمل بل كشأن وطني يخص مختلف مكونات المجتمع. وزير مالية سابق