يتحدث عن صحافة عمان التي لم تعد تمشي الحيط الحيط!


في عمَّان، التي تخوض فيها النخب السياسية والاجتماعية والثقافية في قضايا الإصلاح (النخب، وليس جموع الناس!) كان لي لقاء حاشد، وحميم في آن، بأناس لا أعرفهم وأصدقاء لم أر بعضهم منذ ثلاثين عاماً جاءوا لحضور ندوة عن روايتي ‘حيث لا تسقط الأمطار’ تلاها نقاش مستفيض وتوقيع لنسخ من الرواية.

لم يكن في الندوة اختبار لسقف الكلام في الأردن، لأن الحديث في الأدب حتى وان اختلط ببعض السياسة لا يشكل اختباراً لما أشاعه ‘الربيع العربي’ من أجواء جديدة في غير مكان عربي.

اختبار سقف الكلام في عمَّان (والأردن عموماً) يمكن أن يلحظ بسهولة في الصحافة التقليدية الأردنية التي لم تعد تمشي ‘الحيط الحيط’ كما كان شأنها دائماً، في المواقع الالكترونية العديدة التي تحفل بالصالح والطالح معاً حتى ليصل حد الانفلات الكامل من أي عقال، في الشوارع التي ترى فيها شباناً يرفعون شعارات لم تكن تُرفع من قبل، في لقاءات شباب الحراك الذين كسروا جدار الخوف وراحوا يبحثون عن تحالفات بين مجموعاتهم لدفع مسيرة الإصلاح الشامل أبعد وأكثر جذرية مما يريد لها النظام ونخبته السياسية والقانونية اللذان يعملان على ‘تفصيل’ الإصلاح على مقاسهما بحيث لا يعدو، في نهاية المطاف، أكثر من رتوش تجميلية لما هو قائم.

في عمَّان هذه التي تتوقع إقرار التعديلات الدستورية، وما يرتبط بها من قوانين إصلاحية أخرى ناقشها مجلسا النواب والأعيان ورافقها الحراك الشعبي (الشبابي تحديداً) بقليل من الرضا نظرا لانتقائيتها ومحدوديتها…

في عمَّان هذه يظل هناك متسع للحديث في قضايا الأدب والفن والرياضة (الأخيرة لها حيز أوسع، بالطبع) … وفي هذا الإطار أقام ‘منتدى الرواد الكبار’ ندوة لمناقشة روايتي ‘حيث لا تسقط الأمطار’ بمشاركة الناقد الأردني المعروف فخري صالح.

كان يكفيني، شخصيا، ما وفرته لي الندوة من لقاءات بأصدقاء لم أر بعضهم منذ نحو ثلاثين عاما. كان يكفيني، فعلا، أنها جمعتني بأقدم صديقين لي على الإطلاق، عدنان خليل ونزار حسين راشد اللذين أعادا إليَّ ذكريات شبابي في مدينة الزرقاء حيث هززنا، ذات يوم بعيد، قبضاتنا الفتية في مواجهة المناخ العُرفي القائم وحلمنا، وحلمنا، معاً، بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية أردنياً وعربياً.. بل كان يحلو لنا أن نرى بيارق الحرية والعدالة ترفرف، حمراء، على عالم لا يستغلُ فيه الإنسان أخاه الإنسان.

‘ ‘ ‘

أسعدني وأخجلني احتفاء الأصدقاء بي وبالرواية. أدهشني أن الرواية وصلت إلى قراء لم أكن اعلم بوجودهم، كما أدهشني تأويلهم لها. كان لا بدَّ أن يحضر ‘الربيع العربي’ في الجو. سهل عليَّ أن أقول، الآن، إن الرواية كُتبت في مواجهة الاستبداد. هذا كلام صار سهلاً الآن. ولكن هذا ما رآه فيها الكاتب الصديق الياس خوري، الذي وشحها بكلمة منه، قبل أن يهبَّ علينا ‘الربيع العربي’… غير أنه رأى فيها تكسرات الزمن وانشطار الشخوص أيضا.

كان عليَّ أن أقول كلمتي فيها وأن أرى رأيي. فرأيت أنها، فعلا، رواية ضد الاستبداد السياسي وعبادة الحاكم في وجه من وجوهها، ولكني رأيت فيها، كذلك، رواية الحب الذي لا يتحقق. ولسبب ما فإن الحبَّ الذي تُكتب له الحياة (في الأدب والفن) هو الحب الذي لا يتحقق في الحياة ولا يعرف الإشباع. كل حكايات الحبّ الكبرى لا تكتب لها نهاية سعيدة. لذلك تصبح أساطير: قيس وليلى، روميو وجوليت، مم وزين، قصة (الفيلم السبعيني الشهير) الخ…

كما رأيت فيها رواية عن الزمن الذي يقلّب محراثه الذي لا يرحم كل شيء: العمران، الشباب، الجمال، القامات والوجوه. الزمن الذي يسيل من بين أيدينا ويمرّ أمامنا من دون أن نتمكن من إيقافه أو حرف مساراته الغامضة.

كما رأيت فيها رواية عن الصداقة. الوفاء أو ‘خيانة الوصايا’، والطريق والآمال. ثمة من تظل جمرة الصداقة متقدة في أعماقه وثمة من يطفئها بخيانة معلنة على رؤوس الأشهاد. كما رأيت أن بوسعها أن تكون عن العلاقة الملتبسة، أبداً، بين الابن والأب. التمرد والخروج من الجلباب وربما ازدراء الأبوة ثم التردد والحيرة ومحاولات المصالحة التي يفرضها الزمن أو النوستالجيا وتلألؤ ذكريات واختلاق تشابهات وتناظرات تبعث على العزاء ليس إلاّ.

ورأيت، في ما رأيت، أنها عن ‘ألا اين’ رغم أنها تنطلق، افتراضاً من الأين. هناك حديث للسهروردي المقتول عن ‘مكان ألا أين’ أو ‘مدينة ألا اين’. فعندما سئل، ذات مرة، من أين هو قادم فقال: لقد جئت إليكم من ناكوجا آباد! وهذا مصطلح نحته السهروردي من كلمتين غير مألوفتين في اللغة الفارسية ليعبر به عن المكان الذي لا أين له.

فهل قصد السهروردي بمصطلحه الغريب هذا أن رحلتنا البشرية الباحثة عن الأين لا تصل إلاّ إلى ألا أين؟

لا أدري.

ليس هذا قصدي أيضاً، ولكنها الكلمات التي تجرُّ كلمات والمعاني التي تؤدي إلى معان اخرى، والخطوة التي يخطوها الإنسان ولا يعرف الطرق التي ستختبرها لاحقاً والأيدي التي لا تعرف من ستصافح في مقبل الأيام.

كلّ هذا، بالطبع، كثير على رواية وعلى كلمات.

لكنه التأويل الذي لا يقبل بالظاهر والمُعطى.

ففي التأويل حياة أخرى للحياة.

فما أصعب الحياة عندما تُعاش.

ما أسهلها عندما تُروى!.