محكومون بمائة عام من العزلة

اخبار البلد-

 

لو ضاع منك كتاب فسوف تغضب لو كنت محبا للكتب وهاويا للقراءة. فكيف لو ضاع مؤلف أو كاتب أو مؤرخ أو مفكر؟ أعتقد أن خسارة هؤلاء من نوع الخسارات التي لا يمكن أن تعوض بعد غياب أصحابها، ولو جاء من بعدهم أجيال مؤلفين ومؤخرين جدد. بسبب العزيمة المختلفة والنكهة والدوافع والأساليب.
فقدت فلسطين التاريخية والمنطقة العربية ككل اثنين من أهم المصادر الفكرية والتأريخية والأدبية خلال أقل من شهر واحد بينهما؛ المؤرخ والباحث عصام سخنيني، والمترجم الكبير صالح علماني.
ربما لا يعتقد شباب الجيل الحاضر، بأهمية خبر رحيل أشخاص مثل هؤلاء، لأنهم في الأصل غير معنيين بغياب الرواية والتأريخ واللغة والاقتباس، باعتبارها في الأصل لم تكن موجودة أو على قيد الحياة في يومياتهم، حتى يشكل غيابها فراغا أو أهمية. لذلك فالذين يشعرون بالحزن على كتاب ومؤرخين وشعراء وفنانين، يقدرون فرضية تلاشي الرواية الحقيقية للأحداث، بفقد الرواة والمؤرخين فنا وكتابة وتوثيقا.
عصام سخنيني مؤسس مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت منتصف العقد الماضي، سعى طوال حياته المهنية إلي جمع الوثائق المتصلة بالصراع العربي الصهيوني، ومقابلتها بشلال من الأبحاث والدراسات الميدانية سعت إلى تفنيد المغالطات التاريخية، عبر منهج علمي محترم ترجمتها مؤلفاته الفريدة حول روايات المجازر في تاريخ اليهود، وجذور العقيدة اليهودية، وغيرها الكثير من أساطير الفكر الصهيوني الذي أثبت سخنيني، أنه يقوم على عقيدة الإبادية كمحرك للمشروع الاستيطاني الكولونيالي.
وبغياب مثل هذا المنتج المحارب تفقد فلسطين حرفيا، جبهة علمية وفكرية كانت قادرة على الرد بل وتستبق الادعاء الباطل، بفرش الحقائق والدلائل استباقيا.
"ليس لدى الكونوليل من يكاتبه” هي باكورة إنتاج الراحل صالح علماني، رغم أن الصيت لـ”مائة عام من العزلة”، والتي قام بترجمتها في العام الخامس من العقد الحالي؛ أي تقريبا بعد ربع قرن من ترجمة الرواية الأولى. وبينهما وبعدهما قام علماني بنقل حضارات وحوارات وثقافات وخرافات العالم الموازي للعوالم غير المتحدثة باللغة الإسبانية في العالم. لقد كان وفيا جدا في نقل التفاصيل والتجارب اللاتينية والإسبانية لدرجة أن كثيرا من القراء يتعاملون معه كأنه كاتبها وليس الناقل عن كتابها!
وللحقيقة، فإن ما قام به صالح علماني يعد نقلة نوعية في تنوع ذائقة القراء وتشكيل اتجاهاتهم بل واقتباساتهم التي تعبر عن خواطرهم. لذلك، فإن غياب مثل هذا المبدع الفذ الحساس المنتمي ضمنيا لحكايا الفقراء ومتوسطي الدخل، خسارة فادحة سيكتشفها الجمهور بعد أعوام. وعلى سيرة الأعوام، فإن اقتباسا جميلا يمكن أن يصف المبدعين عموما، والحساسون منهم خاصة بأنهم المعنيون بصفة المحكومين بالمائة عام من العزلة، وليس لهم بعد غيابهم "أو من يحاول أن يكون محلهم” فرص أخرى في الحياة التي نعرفها.
يقول جابرييل غارسيا ماركيز: "قبل أن يصل إلى بيت الشعر الأخير، كان قد أدرك أنه لن يخرج أبدا من ذاكرة البشر، في اللحظة التي ينتهي فيها أوريليانو بوينديا من حل رموز الرقاق، وأن كل ما هو مكتوب فيها لا يمكن أن يتكرر، منذ الأزل إلى الأبد، لأن السلالات المحكومة بمائة عام من العزلة، ليست لها فرصة أخرى على الأرض”.