الاعتصامات .. بين التبريد والعلاج

اخبار البلد-

 

المظاهرات والاعتصامات ليست جديدة على الأردن فقد كانت حدثا يوميا ابان الاستعمار وفي اوج الصراع العربي الاسرائيلي. يومها كانت المظاهرات وسيلة الامة في التعبير عن تطلعها للتحرير واستكمال شروط استقلالها لتمكينها من التعاطي مع اسئلة الوحدة والصمود وبناء القوة الذاتية بعيدا عن الإملاءات والتوجيه والتسيير.
في تلك الايام كانت الاحزاب تقود الشارع وكان الناس يؤمنون بقدرتها ونزاهتها وأمانتها فكانوا حريصين على دعم قياداتها التي شكلت معارضة وطنية واعية مؤتمنة على قضايا الشعب تعبر عن هوية الامة وتطلعاتها واهدافها. بالرغم من المد والجزر بين الدولة والأحزاب فقد كانت الاعتصامات تسند الدولة وتوجه مواقفها وتحصن الاهداف الاستراتيجية للوطن والأمة .
الشارع الأردني كان وما يزال يذكر جيدا عشرات الرجال الذين ضحوا بشبابهم ومستقبلهم فدخلوا السجون او عاشوا تجربة الاقامة الجبرية نتيجة المواقف التي اتخذوها فكلما تحدثنا عن تلك الايام استذكرنا سيرة سليمان النابلسي وحمد الفرحان ومنيف الرزاز وعبدالرحمن شقير وجودت المحيسن وحسين الطراونة وغيرهم.
قبل عقود كانت الدنيا تقوم ولا تقعد اذا ما أضرب سجين عن الطعام او امتنع عدد من الطلبة عن دفع رسوم النشاط المدرسي ولا يهدأ لمسؤول بال قبل ان تعاد الامور إلى نصابها . فالمجتمع منضبط ومعايير المسموح والممنوع واضحة والناس يعرفون ما لهم وما عليهم وكذلك المؤسسات والقائمون عليها.
بعد توقف دام عشرات السنين عادت الاعتصامات إلى الشارع الأردني بهيئة واشكال جديدة يصعب فهمها. على غير المألوف اصبحت الاعتصامات مظهرا من مظاهر الفضاء العام في المدن والارياف الأردنية . في القرى والارياف والبادية اصبح الناس يتظاهرون ويحتجون كلما واجههم ما يزعجهم . ارتفاع اسعار الاعلاف او توقف تصدير البندورة او منع تصدير الزيت اصبحت اسبابا كافية للاعتصام.
الظاهرة الجديدة تعبر عن تلاشي قدرة او تشوه ادوار المجالس المنتخبة في حل المشكلات او تحجر التشريعات والاجراءات الحكومية وفقدانها للقدرة على الادارة الفاعلة وتجنيب المجتمع المشاكل والاختناقات التي تؤدي إلى الشكوى والتذمر.
على الصعد الاخرى تشكل البطالة احد اهم الاوجاع التي يعاني منها الشباب الأردني ويتطلعون إلى التخلص منها. مئات الآلاف من الشباب الأردني عانوا ويعانون من حالة انسداد الافق والحرمان من بدء مسيرتهم العملية. المشكلة التي اصبحت مزمنة وبالغة التأثير أدت إلى قتل الطموح وشيوع حالة اليأس والاستسلام الذي قد يتحول إلى عنف وجريمة في مجتمع طالما عرف بالأمن والسكينة.
خلال العام الاخير انطلقت العشرات من المسيرات من المحافظات ومضارب العشائر باتجاه الديوان الملكي للتعبير عن الاحتجاج على اوضاع البطالة والمطالبة بفرص عمل. المعالجات المبكرة للظاهرة كانت جزئية ومرتجلة وأدت إلى اتساع رقعة الاعتصامات وخلق ادبيات وشعارات جديدة.
في الأردن اليوم يوجد اختلاف على عدد وهوية ومطالب الاعتصامات فهناك من يرى ان هناك اعتصامات بعدد العشائر والتكوينات الديمغرافية الأردنية وهناك من يرى ان هناك مناطق ساخنة واخرى باردة في حين يرى البعض ان الاجهزة والمؤسسات الامنية اصبحت قادرة على تفكيك شيفرة الحراكات والاعتصامات وتفكيكها بسلاسة غير مسبوقة.
في سنوات الربيع العربي كانت ذيبان والطفيلة والكرك ومعان والسلط وعجلون وجرش وحتى مناطق مادبا وام العمد والزرقاء مناطق ساخنة تتفاوت سخونتها من اسبوع لآخر. كان الشباب والكهول والاطفال يخرجون إلى الشوارع دون تنظيم او اهداف مشتركة . البعض استهوته الصور التي شاهدها عبر شاشات التلفزة العربية والبعض تحرك للتعبير عن الغضب الكامن من سماعه لروايات الفساد والممارسات اللاعادلة التي سمع عنها او وقعت عليه.بآليات متنوعة جرى تبريد العديد من هذه المناطق .العديد ممن ساهموا في الحراكات او قادوا نشاطاتها تفاوضوا وتوقفوا بعد ان تواصلت معهم الدوائر الامنية او جرى منحهم امتيازات ومواقع جديدة.
أيا كانت الاسباب والدوافع وأيا كانت الآليات المتبعة في التعامل معها فلا بد للنظر للاعتصامات على انها مؤشر على كفاءة الادارة وجدوى المجالس المنتخبة ومستوى رضا الناس عن إدارة شؤونهم.. الاعتصامات مثل حرارة الجسد فهي أحد الأعراض لوجود مشكلة تحتاج إلى حل وليس إلى تخفيض الحرارة بكمادات ثلجية. التبريد مناسب لوقف التصعيد والخراب لكنه ليس حلا على الإطلاق.