رسائل الانتحار

اخبار البلد-

 

في بحر الأسبوع الماضي، اهتز المجتمع في دولتين عربيتين على وقع حوادث انتحار قضى على إثرها مجموعة من الشباب، وأثارت نقاشا حادا في المجتمع، وأشعلت مواقع التواصل الاجتماعي في نقاشات استقطبت جمهورا واسعا من أفراد ومؤسسات وشخصيات، وأسهم في ذلك حضور الصور ومقاطع "الفيديو” وتعدد منصات التواصل الإعلامي واهتمام وسائل الإعلام التقليدية والحديثة بالظاهرة، وعزز ذلك الانقسامات المجتمعية والاصطفافات السياسية الحادة في كل من مصر ولبنان، بالإضافة إلى الحكايات الأليمة التي رافقت وأنتجت هذه الفواجع.
طالب كلية الهندسة نادر ألقى بنفسه من قمة برج شاهق أمام الكاميرات فعجت المواقع بهذا المقطع، ثم تبعه شاب ألقى بنفسه تحت عجلات القطار، وسبقته طالبة الصيدلة التي قذفت بنفسها في النيل. أما اللبناني ناجي فقد قتل نفسه مباشرة بعد أن عجز عن شراء "منقوشة زعتر” لطفلته لقلة ذات اليد -كما قيل- ليحدث ألما حقيقيا أو مصطنعا عند الجمهور، وتبعه في اليوم التالي داني ثم أنطونيو في ساعات معدودة، مما أطلق ردّات فعل قوية على وقع ارتباك النظام السياسي، وتحفز في المجتمع لتغيير سياسي بالغ التعقيد.
وبمعزل عن الظروف السياسية التي تشهدها هذه الدول، فإن دول المنطقة باتت تشهد ارتفاعا متواصلاً ومقلقاً في معدلات الانتحار ومحاولات الانتحار والتهديد به. ففي بلدنا الأردن، تزايدت حالات الانتحار المسجلة بشكل مستمر ومطرد خلال السنوات الخمس الماضية، بحسب التقرير الإحصائي للجرائم الصادر عن مديرية الأمن العام والتقرير الإحصائي السنوي الصادر عن دائرة الإحصاءات العامة، وهذا ينطبق أيضا على دول الجوار بشكل عام، مما يدق ناقوس الخطر، ويستلزم دراسة الظاهرة وتحليلها واستنهاض عوامل المناعة الموروثة والمتأصلة في مجتمعنا، وكذلك استحداث معالجات لمواجهة التغيرات المستجدة التي أسهمت في استمرار صعود هذه الظاهرة.
الدراسات الطبية النفسية والعصبية درست ظاهرة الانتحار بكثير من التفصيل، وكذلك الدراسات الدينية والبحوث الاجتماعية والأنثروبولوجية، بحيث أصبح الانتحار علما مكتمل الأركان، ويدرسه المختصون دراسة أكاديمية، ويمارسون معالجته في المراكز الصحية والاجتماعية والتربوية، كما تقدم منظمة الصحة العالمية دراسات وإحصاءات كثيرة حول هذه الظاهرة، وتهتم به المؤسسات العالمية والمحلية، وذلك بسبب ما يتركه هذا الفعل من تأثير نفسي واجتماعي واسع في مجتمعات ترفض هذا الفعل من منطلقات دينية وثقافية واجتماعية وسياسية، فكلفة الانتحار في مجتمعاتنا العربية والإسلامية باهظة؛ حيث يمثل حالة فشل للمنتحر ومحيطه ومجتمعه، ولذلك اعتبرت هذه الحالات في مصر ولبنان فشلا لمؤسسات الدولة.
إن ارتفاع معدلات الانتحار المتواصل يطرح سؤالاً عن المتغيرات والعوامل التي أدت إلى هذه الزيادة، وعن التحولات في القيم وفي وسائل المقاومة والدفاع التي تحمي المجتمع من هذه الظاهرة؛ فالفقر والبطالة والفشل الدراسي والاجتماعي والأمراض المستعصية كانت وما تزال موجودة، ولا يجب أن تؤدي في أبشع صورها إلى الفشل التام والاستسلام المفضي إلى الانتحار، مما يحتم وجود عوامل ثقافية واجتماعية أسهمت في هذه الزيادة المطردة.
كثيرا ما ارتبطت محاولات الانتحار برسائل يريد أن يرسلها المنتحر إلى مجتمعيه الصغير والكبير، فالدوافع النفسية الخالصة عند المنتحر من أرادته أن يَقتل وأن يُقتل، كما يقول علماء هذا العلم، وترتبط أيضا برغبة المنتحر بإرسال رسالة على نطاق واسع، وعدم الاكتفاء بالرحيل بصمت، لذلك يختار بعضهم الرحيل بضجة أمام الناس والكاميرات ليرسل رسائل عامة أو خاصة، وربما أعلن عن نيته مسبقا ونشرها في الإعلام مسجلاً وقائع لموت معلن.
إن قراءة هذه الرسائل وتحليلها ومعالجة دوافعها تمثل واجبا على المجتمع بمؤسساته وأفراده، إلا أنه يجب ألا يمثل تمهيدا لقبول هذا الفعل والتبرير له، وقد سجل الإعلام اهتمام المجتمع وجهاز الأمن العام بمواجهة محاولات الانتحار الفردية والمساهمة في ثني الفاعل، وهذا يجب أن يستمر بل يتوسع لمعالجة المسألة بشمول وتوفير وسائل دعم مستدامة، وألا يؤدي تكرار الفعل إلى عدم المبالاة تجاهه، كما سمعنا عبارة ترددت على ألسنة إعلاميين في بلد شقيق "أن سكة القطار ليست مكاناً للانتحار”.
وإنما يتوجب علينا تحمل المسؤولية في المحافظة على التصور الإيماني والتربية الدينية والقيمية، التي تقوي من عزيمة الإنسان وتعلي روحه، وأن نتمثل قيمة الرحمة في قوله تعالى "ولا تقتلوا أنفسكم، إن الله كان بكم رحيما”.