التغيير في لبنان رهن بـ«حزب الله» والوضع العربي والدولي

اخبار البلد-

 

شكلت استقالة حكومة الحريري، انتصارا مهما لثورة شباب لبنان، ولكن إعلانه العزوف عن قبول المنصب مرة أخرى، بعدما جوبهت شروطه بالرفض، شكّل صفعة قوية للعهد، وحلفائه المراهنين على عودته، لإكمال مشروع القروض الدولية «سيدر». الذي بدأه مع الدول المانحة، والذي سوف يؤمن للبنان محفظة مالية تدعم اقتصاده المتهالك. ويستطيع الساسة وأتباعهم الذين يتقاسمون المشاريع، تذوق عسلها.
وكما أن خلاف حزب الله وحلفائه مع الشارع عميق، كذلك هو الأمر مع الحريري، بسبب مطالبه التي جوبهت بالرفض، والتي يمكن تلخيصها بحكومة تكنوقراط، تأخذ على عاتقها وقف الانهيار الاقتصادي، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، وفق قانون جديد على مقاس الوطن والثورة والجيل الجديد، الذي لم يُحسب له من قبل حساب. وأن تكون لهذه الحكومة صلاحيات تشريعية، تتخطى عراقيل الساسة المتمترسين في مجلس النواب، بالإضافة إلى أمور أخرى، تشكل حساسية خاصة بالنسبة لحزب الله، والرئيس عون، وحلفائهما، كعدم المساس بقائد الجيش العماد جوزيف عون، الذي رفض التورط في قمع التظاهرات، بل حماها وعلى رؤوس الأشهاد، وشكّل صمام أمان للمجتمع، أو المساس بحاكم مصرف لبنان الدكتور رياض سلامة، الذي اتخذ كل الإجراءات اللازمة لحماية الليرة، والتخفيف من الضغط عليها، حيث لم تفقد الليرة كثيرا من قيمتها. ومن الممكن أن تسترجع عافيتها سريعا، كذلك حدَّت إجراءاته من تهريب الدولار إلى الجارة سوريا، ما تسبب في هبوط حاد لليرة السورية، ودفع بالحزب وجيشه الإلكتروني إلى شن حرب شعواء طالته حتى في حياته الخاصة. ولهذا لم يمر قرار الحريري بإزاحته لنفسه من الطريق بسلام، إذ اعتبرت الأطراف المتضررة أن الموضوع موجه ضدها مباشرة، ودوس على تفاهماته السابقة معها، مستقويا بالشارع. ومن أجل ثنيه عن موقفه، ولتركيع الشارع الثائر، لكي يقبل بحكومة على مقاسهم هم، مع بعض الديكور الموهم للعيان، دفع الحزب وحلفاؤه أتباعهم في خطة محكمة، إلى ساحات الاعتصام، في عين الرمانة، وبكفيا، وطرابلس، وصور، وبعلبك، وبيروت، فأحرقوا أعلام الوطن وخيم المتظاهرين، وعلقوا مكانها أعلامهم الحزبية، وكسَّروا واجهات المحال والسيارات.
دب الخوف في القلوب، لولا أن تدارك الأمر شباب هذا الجيل الواعي حقا، فقامت في اليوم التالي تظاهرات، وتجمعات مضادة، أكدت على السلمية. ونزعت الفتيل. كان أهمها التجمع بين أهالي وأمهات عين الرمانة والشياح، الذي اتخذ رمزية خاصة، تعود إلى أيام الحرب اللبنانية المشؤومة، فكان من بين هتافاتهم « ما بدنا طائفية.. كلتنا لبنانية.. إسلام ومسيحية». كانت ساعات عصيبة، دلت على ضعف الحزب، وإفلاسه، أمام شارع صامد منذ أربعين يوما. شارع امتص هذه الغزوة الهمجية بحكمة وروية، كما فعل قبلها بأسابيع في منطقة البداوي بطرابلس، عندما قامت بعض عناصر الجيش المنفعلين بإطلاق النار على المتظاهرين السلميين. فتدارك المتظاهرون الأمر بسرعة، وتجمعوا حول العساكر، وقاموا بحمل بعضهم على الأكتاف، وأخذوا بالهتاف للجيش، وبترديد النشيد الوطني، في الوقت الذي كان الجرحى ما زالوا على الأرض ينزفون.
لا يخفى على أحد أنه باستطاعة الحزب في أي وقت، السيطرة على الشارع، والساحات واحتلالها. لأنه الوحيد الذي يملك قوة عسكرية منظمة، ذات خبرات قتالية، وقد فعل ذلك من قبل في 7 أيار/مايو 2008. وفرض يومها أمرا واقعا على الوطن، تجلى في تشكيل حكومة على مقاسه، أشخاصا وبرنامجا، سخّر من خلالها كل مقدرات الوطن لمصلحته ومصلحة حلفائه، الذين أمعنوا سرقة ونهبا بخزينة الدولة، واستحوذوا على الوظائف الحكومية من أسفل السلم إلى أعلاه، وفرضوا رأيهم، وعنصريتهم على المواطنين، ولكن خوفه هذه المرة يتأتى من « بُكْره». فيما لو سيطر، وشكل حكومة صورية، تمرر له أقنومة «شعب وجيش ومقاومة »، فماذا سيفعل في اليوم التالي، والأيام التي تليه؟ وكيف سيدبر ميزانيتها، والخزينة فارغة، وحجم الدين الخارجي مهول قياسا بالناتج المحلي؟

المشكلة ليست في حزب الله وحلفائه فقط، بل هي تتعلق أيضا في جيران لبنان العرب، وفي الغرب بأطيافه

وما هي الدول التي ستتعامل مع هذه الحكومة؟ خصوصا أن الضعف يدب في جسم كل حلفائه، الذين لا يستطيعون أن يقدموا له في هذه المرحلة شيئا، فإيران اليوم في أضعف حالاتها سياسيا واقتصاديا، وتعاني من اضطرابات في معظم مدنها، والعراق في وضع يرثى له، ويعاني من ثورة حقيقية في طريقها إلى الإطاحة بإنجازات ملالي طهران، وبالدمى التي يحركونها في العراق. والأهم من ذلك كله، كيف سيقوم بإرضاء الشارع الذي شعاره «كلن يعني كلن»، وهو شعار يشمله وحلفاءه؟ إذ لم يعد خافيا فساده عبر التهريب في الحوض الخامس لمرفأ بيروت، وفي مطار رفيق الحريري، حيث يفرض هيمنته، ويترك لمجموعة من أتباعه، إدارة التهريب المنظم، بالإضافة إلى إدخالهم البلاد من أرادوا، وساعة أرادوا، من وراء ظهر الجهات الأمنية المختصة، واعتقال بعض السوريين القادمين، وتسليمهم للنظام السوري من دون أن يحرك أحد ساكنا، وما حصل مؤخرا، شكّل فضيحة، عندما سمحوا بالدخول عبر المطار لمجموعة من عملاء إسرائيل الذين ارتكبوا أبشع جرائم التعذيب بحق أبناء الوطن في معتقل الخيام، وفي المراكز الأمنية التي كانت تديرها إسرائيل، ضمن صفقة تمت مع الرئيس عون في وقت سابق.
الواقع أن المشكلة في لبنان اليوم، ليست في الحزب وحلفائه فقط، بل هي تتعلق أيضا في جيران لبنان العرب، وفي الغرب بأطيافه. فبالنسبة للجيران العرب، فهناك التقاء مصالح غير منظور بين الحزب العتيد، وأغلبية الأنظمة العربية، التي ترفض التغيير في لبنان بالشكل الذي يطالب به شباب الساحات والثورة. لأن ذلك يعني عودة الروح إلى المشروع الوطني التقدمي وإحيائه من جديد، الذي قاموا بالمستحيل للقضاء عليه، ودفنه، فأوكلوا حينها الأمر للنظام السوري، بعدما أغدقوا عليه الهبات والعطايا، وغضوا الطرف عن أفعاله اللاإنسانية، وسكتوا عن ابتزازه لهم، فهذا المشروع الوطني لو نجح فإنه سوف يحمل لبنان نحو الحداثة، والدولة المدنية الديمقراطية. دولة المواطنة والحقوق والواجبات، والعدالة وسيادة القانون، ولن يبقى ضمن حدود لبنان فقط، بل سوف تعصف رياحه، لتنتقل إلى الدول المجاورة عاجلا، أم آجلا، وتسري كالنار في الهشيم.
أما المشكلة مع العالم الغربي الذي يراقب عن كثب، في الوقت الذي يقوم بالتحضير لعاصفة قد تكون القاضية بالنسبة للحزب، إذا ما أدخل لبنان تحت الفصل السابع، وهو أمر يدركه الحزب، ويعرفه جيدا، ولهذا يتعامل مع الواقع بحذر، لكي لا يصل إلى هذه النقطة، حيث يوجد قراران قديمان بخصوص لبنان يساعدان على تمرير القرار الجديد بهدوء. وهما القرار 1559 لعام 2004، الذي نصت الفقرة الثالثة منه على «حل جميع الميليشيات ونزع سلاحها» بالإضافة إلى بسط سيادة الدولة على كامل التراب اللبناني. والقرار 1701 الصادر في أغسطس 2006، الذي نصُّ في الفقرة التنفيذية الثالثة منه، على بسط الدولة اللبنانية سيطرتها على كل الأراضي اللبنانية بشكل لا يترك أي مجال لأي سلاح أو سلطة أخرى، وممارسة الدولة كامل سيادتها وسيطرتها، والتأكيد أيضا على اتفاق الطائف، ولكن هذه الدول لها مصالح تخاف عليها، في ما لو امتدت نيران هذه الثورة ورياحها إلى الدول المجاورة، وهنا بيت القصيد. وعندما يتعلق الأمر بالمصالح، تداس المبادئ بالأقدام، اللهم إلا إذا دخلت هذه الدول في مزايدات إعلامية في ما بينها، وحرب نفوذ، ومرت الثورة بالتالي نحو التغيير المقنن بهدوء.
وما تصريحات السفير الروسي في الأسبوع الماضي إلا لفتح البازار، ولخوفه أن يطل هذا القرار المنتظر برأسه، ويقضي على مصالح حليفه الإيراني، وإشارات صريحة منه على إثبات الوجود والنفوذ الذي قد يتبعه بعض الهرطقات غير المؤثرة جديا.