الجزيرة .. عار أن نُلقي حجر في بئر شربنا منها
الجزيرة .. عار أن نُلقي حجر في بئر شربنا منها
أحمد الربابعة
عام 1994م بزغ في السماء العربية نجم ساطع، جلس الملايين من أبناء العرب وغيرهم يناظرونه ويرقبونه صبح مساء ! لم يكن ذلك النجم كوكب جديداً يُضاف إلى كواكب مجرتنا، مثلما لم يكن ظهور ذلك النجم للتبشير بخروج المهدي أو ولادة شخص عظيم ؟ ولكن ضوء هذا النجم بالنسبة للعرب، أصبح ربما كضوء الشمس أو القمر، لا يمكن العيش بدونه !
إنهم مجموعة من الفرسان والفارسات العرب، عمل بعضهم فيما مضى في قناة BBC العربية، أتقنوا اللغة العربية، واحترفوا الإعلام، وعرفوا ما ينقص الإنسان العربي ويعوزه، وما تم حرمانه منه طيلة عشرات السنوات.
وإنها الجزيرة، الأم الحانية التي احتضنت هؤلا الفرسان والفارسات، فحفظ الله هيبتها، وأبقى في أُنوفنا ريح مسكها، وقُدس سرُها، وسدد على طريق الخير خطاها، وجزاها بالإحسان إحساناً، وبالهفوات والكبوات عفواً وغفراناً، وجعلنا ممن اتعظ بنُصحها، واستنار بنورها، واستظل بظلها.
وانه وضاح خنفر، ابن العروبة وابن الإسلام وابن الأردن وابن فلسطين، موقد شعلة الجزيرة وراعي مسيرتها، ورئتها التي منها تنفست هواء الإعلام، لتحي وتعيش وتبعث فينا أمل العودة لجزيرتنا العربية، وقوميتنا، ولغتنا الضاد الفصيحة.
هي الجزيرة حاضنة الشعوب، ونصيرة المظلومين والمُستضعفين والفقراء والمُهمشين والمُحاربين، منارة العلم، وأكاديمية البحث، وجامعة التعليم المجاني، التي قدّمت لكل عربي مقعداً دراسيا وهو في بيته !
هي الجزيرة، التي قاتلت إلى جانب العراق في حروبه مع الغزاة والمحتلين، وهي الجزيرة التي أعادت فلسطين إلى أذهان العرب بأنها قضيتهم الأم، وهي الجزيرة التي كانت منبراً لابن لادن يوم كان العرب يتغنون باسم ابن لادن، وهي الجزيرة التي كانت طعاماً لمجاعات الصومال، وشقيقة لمجاهدي أفغانستان، ونصيرة لمقاومة فلسطين ولبنان والعراق، وواصلة الرحم للعرب في غربتهم وهجرتهم، وهي الجزيرة التي لم تنسى صحراءنا الغربية ولا طوراقها، ولا جزرنا الامارتية المحتلة من إيران، ولا سوداننا يوم كان سودان واحد. وهي الجزيرة حليب أطفال غزه، وماسحة الدمع عن خدود أبناءه.
هي من علمتنا كيف نختلف بالرأي بين بعضنا، وأننا لسنا سجناء لرأي واحد، فأصبح شعارها "الرأي والرأي الآخر" يردد في كل يوم، بل ورمزاً للديمقراطية والتعددية، وهي من علمتنا أن لا نكون متلقين ومستقبلين فقط، بل أن نبحث ونتحرى ونتقصى، ولا نقف عند حد القول.
هي الجزيرة قاهرة الملوك والرؤساء والمسؤولين، ومقلقة مضاجعهم، وهي القاضي الذي اقتص للشعوب من أولئك الحُكام بما ألحقوه بهم من أذى وجور، هي الإخبارية، وهي الثقافية، وهي الرياضية، وهي للأطفال، وهي نافذة للغرب على العرب. وهي الجزيرة أم الشهداء والمعتقلين من الإعلاميين.
هي الجزيرة التي وقفت إلى جانب الشعوب العربية في ثوراتها نحو إسقاط أصنامها، فشاركتهم ربيعهم الذي أسقط ثلاثة من أنظمتهم المستبدة حتى الآن، لحظة بلحظة، وثورة بثورة، وصنم تلو صنم.
وبعد كل هذا وغيره الكثير، هناك اليوم من أبناء العرب، وممن شربوا من بئر الجزيرة، أخذوا يشتمونها بالخيانة والعمالة واللامهنية ؟ وهيأ لهم المسؤولون ممن كانت الجزيرة مقلقة لهم سُبل اللعن والتحقير، وأخذوا يُكيلون لها الاتهامات تلوى الاتهامات، وكأنها لم تفعل ذلك كله ولاغيره ؟
اليوم، ونحن نودع روح الجزيرة (وضاح خنفر) وبعد سبعة عشر عاماً، من شربنا من بئر الجزيرة، عار علينا أن نرمي حجراً في البئر التي شربنا منها، فليست هي الجزيرة التي تستحق الشتم ونكران المعروف، ولا نحن الذين ننكر الجميل.
Ahmad.Alrababah@kermalkom.com