بريطانيا: أنبئوني هل من حاكم غيري؟

اخبار البلد-

 

مما يمتع في قراءة الصحافة البريطانية أن كتّاب التقارير الإخبارية والمقالات التحليلية كثيرا ما يعمدون في محاولة فهم الأحداث إلى الاستئناس بلمع وإنارات من التاريخ الحديث والمعاصر. بل إن معلقي الرياضة في الإذاعة والتلفزة عادة ما يرصعون تعليقاتهم الرصينة المتّزنة (التي لا محلّ فيها لأيّ من آفات الصراخ والتهريج والكلام الإنشائي الشائعة في بعض البلاد العربية) بأرقام ومعلومات ومقارنات تاريخية تنساب سلسة في أعطاف الحديث حتى لتبدو للسامع كأنها آتية عفو الخاطر، بينما هي ليست سوى ما أثمرته فضائل التحقيق والتدقيق التي يتحلّى بها التخصص الأصيل النابع من خالص الغرام والشغف.
والأرجح أن هذه اللطائف الشائقة التي تمتاز بها الصحافة البريطانية هي أدعى إلى لفت نظر القارئ الأجنبي الذي يزوده الازدواج، أو التعدد، الثقافي بمنظور مقارنيّ قلما يوجد عند القارىء البريطاني الذي لا معرفة له، في الأغلب، باللغات الأجنبية. ولهذا فإني أذكر أن مراسل لوموند السابق في بريطانيا، جان بيار لانجولييه، قد أشاد أثناء حوار مع مراسل الاكونومست والغارديان السابق في فرنسا جوناثان فنبي، قبل حوالي عقدين، بقدرة الصحافة البريطانية على تحويل أي موضوع مهما كان جادا إلى مادة جذابة تستثير شهية القراءة. ولأن لانجولييه صحافي عارف، فإني أذكر أيضا أنه قد صحح يوما، في برنامج على شاشة بي بي سي العالمية، ما ذكره صحافي عربي من أنه لم يحدث طيلة النصف الثاني من القرن العشرين أن كان للإرادة الشعبية دور في اختيار الحاكم أو القبول به في أي بلد عربي.
قال الفرنسي للعربي: «ليس هذا بصحيح. لقد كان خروج الجموع في مصر رفضا لاستقالة عبد الناصر تعبيرا عفويا عن إرادة شعبية حية، هذا فضلا عن أن ناصر (كما يسميه الأجانب) كان زعيما شعبيا محبوبا بحق في كل البلدان العربية».

إن معلقي الرياضة في الإذاعة والتلفزة البريطانية عادة ما يرصعون تعليقاتهم الرصينة المتّزنة بأرقام ومعلومات ومقارنات تاريخية تنساب سلسة في أعطاف الحديث حتى لتبدو للسامع كأنها آتية عفو الخاطر

ومن أحدث الأمثلة على لطائف الصحافة البريطانية هذه أنها نصحت رئيس الحكومة المتقلب المتهور بوريس جونسون قبل أيام بأن من مصلحته أن «يعير الانتباه إلى ستانلي». وبما أن هذا هو اسم والده، قالت له صاحبة الجلالة: ما عنينا الوالد الكريم، وإنما نعني ستانلي بولدوين، سلفك في رئاسة الحكومة. والقصة أن ستانلي، المبرّأ من تهمة الاتصال مع بوريس بنسب أو سبب بيولوجي، قد دعا عام 1923 إلى عقد انتخابات عامة في كانون الأول/ديسمبر، بدل الموعد المعتاد في أيار/مايو (أو، في حالات قليلة، تشرين الأول/أكتوبر)، فإذا بالشتاء الانتخابي يسفر عن هزيمة حزب المحافظين الحاكم. وقد كانت تلك آخر مرة يتجرأ فيها أحد على الخروج على مألوف عادات التوقيت الانتخابي.
ويبدو أن الاقتناع بأن الأخذ بالأعراف أسهل وأجدى ليس السبب الوحيد في عدم العودة إلى بدعة الشتاء! بل لا يبعد أن خالط الأمر بعض تطيّر عند سالف الأجيال السياسية من مغبّة تكرار فعلة ستانلي بولدوين، ولو أن الواقعة لم تعد من «المعلوم بالضرورة» عند محدث الأجيال.
أما مكمن التشابه بين ملابسات اليوم والأمس فهو أن ستانلي بولدوين الفائز بانتخابات أيار/مايو 1923 قد أراد في كانون الأول/ديسمبر الفوز بأغلبية برلمانية أكبر تمكّنه من تحقيق رغبته في سحب بريطانيا من نظام التبادل الحر مع دول الجوار الأوروبي، بزعم حماية البلدات والمدن الصناعية البريطانية من تأثيرات موجة العولمة الباكرة بعيد الحرب العالمية الأولى. غير أن الأغلبية الشعبية، خصوصا في الحواضر الكبرى، صوتت ضد هذه السياسة الحمائية وأيدت استمرار انفتاح بريطانيا على البر الأوروبي، الأمر الذي أدى إلى تجدد شعبية الحزب الليبرالي وإلى فوز حزب العمال، ممثلا في زعيمه رمزي ماكدونالد، برئاسة الحكومة لأول مرة في تاريخ بريطانيا.
وكأن هذا التشابه المحتشد باحتمالات مكر التاريخ لا يكفي، فقد عمدت الصحافة إلى تشبيه وضع جونسون اليوم بوضع رئيس الحكومة ادوارد هيث قبيل هزيمته الانتخابية عام 1974. ضاق ذرعا بالمعارضة البرلمانية اللجوج، فبادر إلى عقد انتخابات ركز رهانها في سؤال مباشر: «من الذي يحكم البلاد؟»، فإذا بالجواب الشعبي يأتي ماضيا مضاء النصل: إذا بلغ بك الأمر حد أن تسأل: أنبئوني، فما أنت يا رئيس الحكومة بحاكم!